رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

واشنطن ولندن تتفقان على إحراج نتنياهو

نستطيع القول بأريحية تامة إن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، أصبح أسيرًا لطموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الهوجاء في قطاع غزة.. وأصبح الخوف على مصيره في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة على المحك، وسط نتائج استطلاعات رأي أفادت بأن أكثر من نصف شباب الحزب الديمقراطي يؤمنون بأن ما يحدث في قطاع غزة هو (إبادة جماعية) يمارسها جيش الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وأن بايدن شريك أساسي في هذه الإبادة.. فما بالنا بأنصار ترامب، الذي يحظى، بناءً على نفس نتائج استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة، بتأييد كاسح، مما دفع بايدن إلى وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي سرًا بأنه (رجل سخيف سيئ)، وراح يضغط على نتنياهو بورقة الاعتراف الأمريكي بالدولة الفلسطينية، وأوعز إلى ديفيد كاميرون، وزير الخارجية البريطاني، بالقول إن بريطانيا مستعدة لتحريك المحادثات حول الاعتراف رسميًا بدولة فلسطينية، والتأكيد على أن بلاده وحلفاء آخرين يجب أن يُظهروا للفلسطينيين (تقدمًا لا رجعة فيه)، نحو هذا الهدف الذي طال انتظاره.. وقال كاميرون، متحدثًا إلى مجلس الشرق الأوسط المحافظ، وهي منظمة تروج للنقاش حول المنطقة بين حزب المحافظين، إن إظهار التقدم نحو حل الدولتين أمر ضروري للتفاوض على السلام، ووصف سياسات إسرائيل الأمنية في العقود الثلاثة الماضية بأنها (فاشلة).. ولطالما تمسكت الحكومة البريطانية بموقف مفاده أنها لن تعترف بدولة فلسطينية إلا في (الوقت المناسب) في عملية السلام مع إسرائيل، وتشير تعليقات كاميرون في لندن إلى أن بريطانيا ربما تهدف إلى القيام بذلك في وقت أقرب، وأن الأولوية القصوى (هي إعطاء الشعب الفلسطيني أفقًا سياسيًا، حتى يتمكن من رؤية أنه سيكون هناك تقدم لا رجعة فيه نحو حل الدولتين، وبشكل حاسم، إقامة دولة فلسطينية).
وقال متحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني إن تعليقات كاميرون لم تكن خروجًا عن موقف الحكومة القائم منذ فترة طويلة بشأن إقامة دولة فلسطينية، (موقفنا لم يتغير بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية: سنفعل ذلك في الوقت الذي يخدم قضية السلام على أفضل وجه.. المملكة المتحدة من جانبها، وأعتقد أنها جنبًا إلى جنب مع حلفائها، لا تزال تعتقد أن حل الدولتين يحمي السلام والأمن، لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين).. وكان كاميرون، الذي حاول الضغط على نتنياهو في اجتماع في إسرائيل الأسبوع قبل الماضي، قد وجه كلمات قاسية لإسرائيل في تصريحاته، قائلًا إنه من المهم الاعتراف بأخطاء السنوات الأخيرة من أجل إيجاد طريق للمضي قدمًا.. وقال: (إذا كانت السنوات الثلاثين الماضية تخبرنا بأي شيء، فهي قصة فشل.. في نهاية المطاف إنها قصة فشل لإسرائيل لأنه، نعم، كان لديهم اقتصاد متنامٍ.. نعم، كان لديهم ارتفاع في مستويات المعيشة.. نعم، استثمروا في الدفاع والأمن والجدران العازلة وما تبقى منها.. لكنهم لم يتمكنوا من توفير أكثر ما تريده الدولة، وما تريده كل أسرة.. الأمن).. فيما أكدت وزارة الخارجية الفلسطينية أنها ترحب بتصريحات كاميرون، واصفة الدعم الدولي لدولة فلسطينية في نهاية المطاف بأنه (خطوة استراتيجية ضرورية لحل الصراع وتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم).
وتضغط الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفاء آخرون على إسرائيل للموافقة على شروط لإقامة دولة فلسطينية، على الرغم من أن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ظل متحديًا، واصفًا مثل هذه الخطة بأنها (خطر وجودي على إسرائيل).. ويخطط كاميرون أيضًا للضغط من أجل وقف فوري للقتال في غزة، للسماح بدخول المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها في القطاع وإطلاق سراح الرهائن.. وقالت وزارة الخارجية البريطانية إنها (قلقة) من مؤتمر انضم إليه بعض الوزراء الإسرائيليين في نهاية الأسبوع الماضي، دعا إلى بناء مستوطنات يهودية في غزة، وأكدت أن (موقف المملكة المتحدة واضح: غزة أرض فلسطينية محتلة، وستكون جزءًا من الدولة الفلسطينية المستقبلية.. المستوطنات غير قانونية.. ولا ينبغي تهديد أي فلسطيني بالتهجير القسري أو إعادة التوطين).
بالتزامن مع تصريحات كاميرون والخارجية البريطانية، طلب وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، من وزارته، إجراء مراجعة وتقديم خيارات سياسية بشأن اعتراف أمريكي ودولي محتمل بدولة فلسطينية بعد الحرب في غزة.. ما أهمية ذلك؟
في حين يقول المسئولون الأمريكيون إنه لم يحدث أي تغيير في السياسة، فإن حقيقة أن وزارة الخارجية تدرس مثل هذه الخيارات، تشير إلى تحول في التفكير داخل إدارة بايدن، بشأن الاعتراف المحتمل بالدولة الفلسطينية، وهو أمر حساس للغاية على الصعيدين الدولي والمحلي.. فعلى مدى عقود، كانت سياسة الولايات المتحدة هي معارضة الاعتراف بفلسطين كدولة، على المستوى الثنائي وفي مؤسسات الأمم المتحدة، والتأكيد على أن إقامة دولة فلسطينية يجب أن تتحقق فقط من خلال المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، إلا أن مسئولًا أمريكيًا كبيرًا قال إن الجهود المبذولة لإيجاد مخرج دبلوماسي من الحرب في غزة فتحت الباب لإعادة التفكير في الكثير من النماذج والسياسات الأمريكية القديمة.
وتربط إدارة بايدن التطبيع المحتمل بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية بإنشاء مسار لإقامة دولة فلسطينية، كجزء من استراتيجيتها لما بعد الحرب.. وتستند هذه المبادرة إلى جهود الإدارة قبل السابع من أكتوبر، للتفاوض على صفقة ضخمة مع المملكة العربية السعودية تضمنت اتفاق سلام بين المملكة وإسرائيل.. وقد أوضح المسئولون السعوديون علنًا وسرًا منذ السابع من أكتوبر، أن أي اتفاق تطبيع محتمل مع إسرائيل سيكون مشروطًا بإنشاء مسار (لا رجعة فيه) نحو دولة فلسطينية.. وقال المسئول الأمريكي الكبير إن البعض داخل إدارة بايدن يعتقدون الآن أن الاعتراف بدولة فلسطينية يجب أن يكون الخطوة الأولى في المفاوضات لحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني بدلًا من أن يكون الخطوة الأخيرة.
وهناك عدة خيارات لاتخاذ إجراء أمريكي بشأن هذه القضية، بما في ذلك: الاعتراف الثنائي بدولة فلسطين.. عدم استخدام حق النقض (الفيتو) لمنع مجلس الأمن الدولي من قبول فلسطين كدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة.. تشجيع الدول الأخرى على الاعتراف بفلسطين.. وفي الوضع الراهن: قال مسئولون أمريكيون إن مراجعة الخيارات المتعلقة بالاعتراف بدولة فلسطينية هي واحدة من عدة قضايا طلب بلينكن من وزارة الخارجية النظر فيها.. كما أن بلينكن طلب مراجعة ما ستبدو عليه الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، بناءً على نماذج أخرى من جميع أنحاء العالم.. علمًا بأن فكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح هي شيء اقترحه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عدة مرات، بين عامي 2009 و2015، لكنه لم يعد يشير إليها في السنوات الأخيرة.. بينما قال مسئول أمريكي إن الغرض من هذه المراجعة هو النظر في خيارات لكيفية تنفيذ حل الدولتين بطريقة تضمن أمن إسرائيل، والبيت الأبيض على علم بالمراجعتين، ولم يوقع بلينكن على أي سياسة جديدة إذ أن وزارة الخارجية بصدد الخروج بقائمة كبيرة من الخيارات.
في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض يتحدثون عن أن (سياسة الولايات المتحدة طويلة الأمد، هي أن أي اعتراف بدولة فلسطينية يجب أن يأتي من خلال مفاوضات مباشرة بين الطرفين، وليس من خلال اعتراف أحادي الجانب في الأمم المتحدة.. وهذه السياسة لم تتغير).. وإذا عدنا إلى الوراء، في اللقطات الماضية: نظرت وزارة الخارجية في ظل إدارة أوباما في مسألة الاعتراف بدولة فلسطينية، بما في ذلك بعد أن سعت السلطة الفلسطينية إلى الاعتراف بها كدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة عام 2011.. في ذلك الوقت، أعدت وزارة الخارجية ورقة جوهرية حول هذه القضية، ولكن لم تتم مناقشتها داخل الإدارة كخيار جدي.. وقد قبلت الجمعية العامة للأمم المتحدة فلسطين كدولة مراقبة عام 2012 ولم تمنحها العضوية الكاملة.
على الأرض.. رفض نتنياهو- الذي عارض منذ فترة طويلة حل الدولتين- مؤخرًا الدعوات للسيادة الفلسطينية، وتعارض إسرائيل بشدة أي اعتراف بدولة فلسطينية من قِبل الدول الفردية أو في الأمم المتحدة، حيث تضم حكومة نتنياهو قوميين متطرفين يعارضون حتى المبادرات الصغيرة تجاه الفلسطينيين.. وقد اعترف المسئولون الأمريكيون بأنه من غير المرجح أن يوافقوا على مسار نحو دولة فلسطينية مستقبلية.. وما يجب مراقبته الآن أن بلينكن اجتمع مع وزير الشئون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، في وقت لاحق لمناقشة الوضع في غزة، وخطط اليوم التالي للحرب، وإمكانية التطبيع مع المملكة العربية السعودية، وفي نفس الوقت، التقى ديرمر مع مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، جيك سوليفان، لإجراء مناقشة مماثلة.
إلا أنه، ومن طرف خفي.. هناك خطة إسرائيلية سرية تهدف إلى إقامة حكومة عسكرية في غزة وتعزيز العلاقات الإقليمية مع توقف الحرب في القطاع، والتطلع إلى دولة فلسطينية مستقبلية وسلام مع المملكة العربية السعودية.. تتضمن المرحلة الأولى إنشاء حكومة عسكرية إسرائيلية شاملة في غزة، للإشراف على المساعدات الإنسانية وتحمل المسئولية عن السكان المدنيين خلال (فترة انتقالية).. وفي الوقت نفسه، ستشهد المرحلة الثانية تشكيل تحالف عربي دولي، يضم المملكة العربية السعودية ومصر والمغرب والإمارات العربية المتحدة والبحرين وغيرها.. ومن المقرر أن يكون هذا الائتلاف جزءًا من اتفاق تطبيع إقليمي أوسع، يدعم إنشاء (السلطة الفلسطينية الجديدة).. وفيها، المسئولون، الذين لا ينتمون إلى حماس ولا يرتبطون مباشرة برئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، أبومازن، سيرثون حكم غزة من إسرائيل. وستحتفظ إسرائيل بالحق في القيام بعمليات أمنية في غزة، على غرار عملياتها في الضفة الغربية، كلما ظهرت احتياجات عملياتية لمواجهة ما تسميه بالإرهاب أو البنى التحتية لهذا الإرهاب المزعوم.. أما المرحلة اللاحقة، التي تتوقف على استقرار غزة ونجاح الكيان الجديد (السلطة الفلسطينية الجديدة)، فتنطوي على إصلاحات واسعة النطاق في الضفة الغربية، فيما يتعلق بوظائف السلطة الفلسطينية وتغيير المناهج التعليمية بالمدارس وإدارة المقاومة.. وإذا سارت هذه المرحلة بسلاسة، ضمن جدول زمني محدد مسبقًا من سنتين إلى أربع سنوات، فإن إسرائيل ستعترف بدولة فلسطينية محددة داخل أراضي السلطة الفلسطينية، وتنظر في نقل أراضٍ إضافية غير مطلوبة للاستيطان إلى تلك الدولة.
هذه الخطة السرية، التي وُضِعَت في إسرائيل من قِبل ما يشار إليهم باسم (مجموعة من رجال الأعمال)، تمت مشاركتها مع شخصيات أمريكية رسمية.. ويرتبط العديد بين رجال الأعمال هؤلاء، ارتباطًا وثيقًا برئيس الوزراء نتنياهو، وأحدهم قريب بشكل خاص.. وتتماشى هذه المبادرة، التي تمثل بالون اختبار من نتنياهو، مع جهود التسوية الشاملة في الشرق الأوسط التي تقودها الولايات المتحدة، والتي تمتد عبر غزة والسلطة الفلسطينية والمملكة العربية السعودية.. وعلى الرغم من أن نتنياهو لا يشارك بشكل مباشر في هذه المناقشات، بل يفوض مستشاره الموثوق به، رون ديرمر، إلا أنه يكون قادرًا دائمًا على إنكار المشاركة المباشرة من خلال نسبتها إلى (رجال الأعمال)، إذا طرأ جديد على أفكاره، وأراد التملص مما دعا إليه في هذه الخطة.. وهكذا هو نتنياهو دائمًا.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.