رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ابن قلاقس الشَّاعرُ..الذي أعادهُ خليل مطران ورياض السُّنباطي إلى النُّور

خليل مطران
خليل مطران

يكادُ يكونُ ابن قلاقس شاعرًا مجهولًا في ثقافتنا العربية،على الرغم من أنَّ خليل مطران قد قدَّم في بدايات القرن العشرين الميلادي منتخباتٍ من شِعْره،لكنها للأسف لم يُعد طبعها،كما لا توجدُ دراساتٌ أكاديميةٌ كافيةٌ حول شِعْره وحياته الغامضة الغريبة الملأى بالعجائب،إذْ إنه ابن السَّفر والرحلة،وأيضًا هو لم يعش حياةً طويلةً مثل غيره من شُعراء عصره،ولا أحد يذكُرُه، ولا أحدَ يطبعُ شعرَهُ الذي كان شهيرًا في زمانه؛كي يكونَ مُتاحًا أمام قارىء الشِّعْر خُصوصًا، والقارىء بشكلٍ عام، هو عندي شاعرٌ غريبٌ في سلوكه وحياته، مات ولم يبلغ الأربعين من عُمره  في "عيذاب" على شاطىء البحر الأحمر شوال سنة سبع وستين وخمسمائة هجرية،وهو المكانُ نفسُه الذي مات ودُفِنَ فيه القُطب الصوفي أبو الحسن الشاذلي بعد ابن قلاقس بنحو مئة سنة،حيثُ توفي الشاذلي بوادي حُميثرة بصحراء عيذاب،وكان مُتوجِّهًا إلى مكة في أوائل ذي القعدة 656هـجرية.

عاش ابن قلاقس - (وقلاقس: بقافيْن، الأولى مفتوحة والثانية مكسُورة وبينهما لام ألف وفي آخره سين مُهمَلة، وهو جمع قلقاس بضم القاف وهو معروف)-

فريدًا سائحًا جوَّالًا، جوَّابَ آفاقٍ، كان كثيرَ الترحال، مُحبًّا لركوب البحر، وزاد من ذلك اشتغاله بالتجارة، وعبَّر عن هذا الحُب بقوله:

"والناسُ كُثْرٌ ولكنْ لا يُقدَّرُ لي

إلا مُرافقةُ الملاّحِ والحادي"

ورُبَّما يكون الفضلُ الأكبرللتعريف به يعُود إلى الموسيقار رياض السنباطي (30 من نوفمبر 1906 - 10 من سبتمبر1981ميلادية)عندما اختار من شعره قصيدة "كتمتَ الهوى حتى أضرَّ بك الكتْمُ "لتغنِّيها المطربة المصرية اللبنانية سعاد محمد (2 من فبراير 1926 - 4 من يوليو 2011ميلادية).

كان يُلقَّب بالمجيد والبليغ،وبالقاضي الأعزّ، وكان على غير عادة شُعراء مصر قد استقر بصحراء عيذاب، لتوسُّطها بين مصر والحجاز واليمن، تبعًا لاقتضاء مصالحه التجارية.

عاش في القرن السادس الهجري  زمن الخلافة العباسية، وهو سكندريُّ النشأة والتكوين، ولذا هو ابن البحر والطَّبيعة في شِعره، وقد ركب البحرَ كثيرًا، وتوجَّه عبره إلى صقلية - وكان له فيها أصدقاء يكاتبهم ويكاتبونه -،واليمن وكان له رسائلُ كثيرةٌ مع عددٍ من الأمراء منهم عبد النبي بن مهدي صاحب زبيد: وكان طوَّافًا بين زبيد وعدن،إذْ كان كثيرَ الترحال، فقد سافر إلى جزيرة صقلية في سنة 563 هـجرية،وكان كثير التردُّد على ميناء عيذاب المطل على البحر الأحمر، وفي 565 هـجرية أبحر إلى مدينة عدن باليمن، وكانت تربطه صلاتٌ وثيقةٌ مع عددٍ من أمراء وحُكَّام اليمن، ومع رحلة العودة ارتطمت سفينته بصخرة قُرب إحدى جُزر البحر الأحمر، فخسر جزءًا من تجارته وأُتلِفَ بعضُ شِعْره، فأسعفه سلطان دهلك، ومكثَ هناك مدَّة من الزَّمن (اتخذ بعض الخلفاء المسلمين دهلك منفًى للمغضُوب عليهم كنوعٍ من العقاب وبالذات الشُّعراء الذين عرفوا في شِعْرهم بالمجون والتشبيب بالنساء. كما أنَّ هذا الأرخبيل أصبح في إحدى المراحل مركزًا للقراصنة، ومن أشهر من نُفي إليها الشَّاعر عمر بن أبي ربيعة (644ميلادية / 23 هـجرية - 711ميلادية / 93 هـجرية) الذي تطرَّق إلى العديد من النساء في شِعره وتعرَّض لهن، وحيث ضاق بعبثه الخليفة عمر بن عبد العزيز ثامن الخلفاء الأمويين (61 - 101 هـجرية / 681 - 720 ميلادية)نفاه إلى جزيرة دهلك جنوبي البحر الأحمر حتى مات هناك سنة 711ميلادية،وأرخبيل دهلك، هو مجموعة جُزُر تقعُ في البحر الأحمر بالقرب من مصْوَع، في إريتريا، ويحتوي على جزيرتين كبيرتين ومئة وأربعٍ وعشرين جزيرةً صغيرةً،واشتهر الأرخبيل بصيد اللؤلؤ منذ العُصُور الرومانية ولا يزال ينتجُ عددًا كبيرًا من اللالئ. ويوجدُ أربعُ جزرٍ فقط مأهولة بالسكان، وهي دهلك الكبير وهي أكبر جزيرة وأكثرها سكانًا، ونهلق، وتشتهر الجزيرتان بصيد اللؤلؤ منذ أيام الرومان، وما زالتا تنتجان كمياتٍ كبيرةً منه).

وكانت قد ارتطمت السفينةُ التي تبحرُ بابن قلاقس بصخرة في جزيرة " نُخْرة " بضمِّ النُّون وسُكُون الخاء (وسماها ابن خلكان جزيرة الناموس؟) قرب دهلك (قال ياقوت: ويُقال له دهيك أيضًا، وهو مرسى في جزيرة بين بلاد اليمن والحبشة) فتبدَّد " ثلثا " ما معه من فلفل وبقَّم (هو جنس من النباتات يتبع الفصيلة البقولية من رتبة الفوليات) وسواهما. وأسعفه سلطان دهلك " مالِك بن أبي السداد " بالطعام والملابس، له ولرجاله، وأنزله عنده. واستكتبه في منتصف جمادي الآخر (566) رسالة إلى " السيد عبد النبي بن مهدي " صاحب زبيد، ورسالة أخرى (غير مؤرخة) إلى " القاسم بن الغانم بن وهاس الحسني صاحب بلاد عثر، بين الحجاز واليمن " وكتب هو، في غرة رجب 566 إلى " أبي بكر العيدي " الوزير بعدن، اثنتي عشرة صفحة صغيرة، هذه فقراتٌ منها: "..من جانب الصخرة، بنُخْرة..وشوقي يكاثر الفلفل المُبدَّد في السواحل، والبقَّم المفرق في المراحل..ما زالت تترامى بنا الأفواج والأمواج، حتى استأثرت. بأموالنا وآمالنا. نعم، قد سلم الثلث، والثلث كثير، وحصلنا بجزيرة دهلك، والسلطان المالك ابن أَبي السَّدَاد..ساعدني بالبَز(البَزُّ: نوع من الثِّياب ) والبُرِّ( حبُّ القمح )..ووثقت منه بوعد في خروجي هذه السنة عند عود رسوله من بر العرب " ثم يحدثه ببعض الأخبار: " ووردت كتب مضمنة جملة من الأخبار المصرية، منها أن السلطان الأجل صلاح الدين. غزا غزّة من بلاد الفرنج خذلهم الله، وكسر، وأسر، وعاد غانما والحمد للَّه، ورفع المكوس، وجعل دار الشحنة بمصر مدرسة للعلم ". ثم يخبره بنجاة أشياء (لعلها هدايا) كان قد سلَّمها إليه، ويذكُرُ بعضها ويقول: " وحصر ذلك يستدعي زمانًا، وبيانًا، وبنانًا، ولسانًا، وجنانًا، وإمكانًا، وهذيانًا، فالعذر في تركه واضح " ويقول: " كانت معي كتُب كتَب البحر عليها المحو، فلا شعر ولا لغة ولا نحو، لم يسلم سوى ديوان شعر ابن الهبارية، بعد أخذه من البلل. ضاع شِعْري كله، وانحط عن متن نظري فيه كله (أي ثقله) فقد كنتُ لا أخلو من إصلاح فاسد، ومداراة حاسد " ويخبره بأنه بدأ بنظم قصيدة فيه، مطلعها: " وشى بسرك عرف الريح حين سرى " وأنه نظم قصيدة في " السُّلطان المالك " أولها: " قفا فاسألا مني جفونًا وأضلعا " وكتب إليه في رسالة أخرى، يشكو طول الإقامة بدهلك، ويقولُ: " ولولا أن يعثر القلم لجرى وجرّ، وسرى وما سرّ، فقد امتلأت المسامع بسوف، وعلمت المطامع أنها بوادي عوف، وكنتُ أمنعُ بيعَ الشِّعْر في زمن أقلّ ما يتشارى فيه بالذهب، فصرتُ أصرفُهُ بالبخس. نعم نزلتُ على أم العنبر، فلعنتُ البحر مع البر " ثم يقولُ: " تسلفتُ من التجار بزا. واشتريتُ به من العبيد، وعوَّلتُ على قطع البيد، إلى زبيد. وأدخل من هناك إلى عدن " وقد فعل. وهذه قصة غرقه، كتبها بقلمه، وانتفى بها زعم المؤرخين جميعا بأنه " غرق جميع ما كان معه وعاد إلى أبي الفرج - ياسر بن بلال المحمدي - وهو عريان ".

وابن قلاقس المُلَقَّب بالإسكندري (4 من ربيع الأول 532 هـجرية/19 من ديسمبر 1137 ميلادية - 3 من شوال 567 هـجرية/29 من مايو 1172 ميلادية).

وقد وُلِدَ لأسرةٍ عربيةٍ تعُودُ أصولُها إلى قبيلة لخم، وكانت ولادتُه في مدينة الإسكندرية، تعرَّف إلى القاضي الفاضل (526- 596هـجرية/1131- 1199ميلادية) ومدحه في شعره مثل معاصريه البهاء زهير (1186 - 1258ميلادية / 581 - 656 هـجرية) وابن نُباتة المصري (686-768ه‍جرية = 1287-1366ميلادية) وابن سناء المُلك ( 545 - 608 هـجرية / 1150 - 1212 ميلادية) وابن النبيه(560 - 619 هـجرية / 1164 – 1222ميلادية).

 انتقل ابن قلاقس في فترةٍ من حياته إلى القاهرة، وعُدَّ هناك من زُمرة الأمراء، ثُمَّ عاد إلى الإسكندرية،اتصل بعددٍ من رجال عصره كالخليفة العاضد لدين الله (1151ميلادية / 546هـجرية - 1171ميلادية/567هـجرية )،وصلاح الدين الأيوبي (532 - 589 هـجرية / 1138 - 1193 ميلادية) وطلائع بن رزيك المُلقّب بالملك الصالح، وأحد وزراء الدولة الفاطمية ومن أبرز فقهائها وشعرائها ( 495 - 556 هـجرية / 1102 - 1160 ميلادية)،وعمارة اليمني(515 هـجرية/ 1121 ميلادية - 569 هـجرية/ 1174 ميلادية). 

وكان ابن قلاقس شاعرًا مُكثِرًا، نُشِرَ ديوانه في سنة 1905 ميلادية بتحقيق الشَّاعر خليل مطران (1 من يوليو 1872 - 1 من يونيو 1949ميلادية) في مصر،

وكان مخطوط ديوانه في خزانة الشَّيخ علي اللَّيثي بمصر، وفي المكتبة الأهلية بباريس، مخطوطة (رقم 3139).

ولابن نُباتة المصري (مختارات من ديوان ابن قلاقس ).كما تُنسب إليه كتبٌ أخرى من أشهرها:«الزهر الباسم في أوصاف القاسم(القائد الصقلِّيِّ) »،و«روضة الأزهار في طبقات الشعراء»،و«مواطر الخواطر»

قال عنه الزركلي (25 من يونيو 1893ميلادية - 3 من ذي الحجة 1396هـجرية / 25 من نوفمبر 1976ميلادية) هو: «شاعرٌ نبيلٌ من كبار الكُتَّاب المُترسِّلين، كان في سيرته غموضٌ»..

وممَّا يُؤسف له أنَّ الذي جمع ديوان ابن قلاقس قد حذفَ منه ما لا يُعجِبُهُ،وقد كان ينبغي أن يتركه كما هو، ولا يصدر حكمًا على شاعرٍ ويدع التاريخ والنقاد يمارسُون أحكامهم.

كان ابن قلاقس مُغرمًا  بالمُحسِّنات اللفظية والجماليات البديعية، وبخاصة الجناس والتورية وكان يشتغل شعريًّا على  التضمين والاقتباس، اللذين يدلَّان على ثقافته الواسعة والمُتنوِّعة، واطلاعه على تاريخ الشِّعْر العربي بشكلٍ كبيرٍ، وقد استفاد شعريًّا من ابن الرومي

( 221 - 283 هـجرية / 836 - 896 ميلادية) وابن المعتز (247هـجرية/861ميلادية - 296هـجرية/908ميلادية) والمتنبي (303-354هـجرية/915-965ميلادية)وغيرهم، وكان أكثر من عارضهم هو البحتري (821 - 897ميلادية).

"ويعد ابن قلاقس من الشُّعراء البارزين في العصر الفاطمي وامتدت شُهرته إلى أَمْدَاء واسعة، إذْ كان ذا ثقافةٍ دينيةٍ عاليةٍ، واطلاعٍ واسعٍ في علُوم الفقه والحديث، فضلًا عن ثقافتهِ الأدبية العالية، إذْ تردَّد الشَّاعرُ بين الأساليبِ القديمة والجديدة وأخذ من الشُّعراء القدماء الألفاظ الوعرة والتراكيب القديمة، ومن الأساليب الجديدة، فقد عُني بالزينة اللفظية عنايةً فائقةً "، وسبق وأنْ دُرِسَ شعر ابن قلاقس  في دراستين كانت الأولى "شعر ابن قلاقس دراسة أسلوبية "في جامعة صنعاء باليمن، والثانية "قصيدة المديح في شعر ابن قلاقس دراسة موضوعية وفنية " في جامعة الإسكندرية بمصر.

وكتب عنه الدكتور محمد زكريا عناني كتابا  في ثلاثمائة صفحة عنوانه «النصوص الصقلية من شعر ابن قلاقس الإسكندري وآثاره النثرية». ونشرته دار المعارف بالقاهرة سنة 1982ميلادية.

وكتبت الدكتورة سهام الفريح الأستاذ في كلية الآداب، جامعة الكويت، رسالة اسمها «ابن قلاقس: حياته وشعره» ونُشرت ضمن الحولية الأولى التي تصدرها جامعة الكويت تحت مُسمَّى «حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية». وقد صدرت هذه الرسالة سنة 1980ميلادية/1399هـجرية.

و كتب المستشرق الإيطالي رزيتانو أومبيرتو بحثا في الموسوعة الإسلامية، الطبعة الإنجليزية، لايدن، مادة: ابن قلاقس.

وكان رزيتانو مديرًا لمعهد باليرمو وأحد القلائل المتخصصين في تاريخ صقلية الإسلامية، ولد بالإسكندرية لأسرة أصلها من صقلية، تعلم العربية في مصر، ثم تابع تعلُّمها في جامعة روما، حاضر في جامعة باليرمو والجامعة الأردنية بعمَّان،وله كتابٌ عنوانه:"تاريخ الأدب العربي في صقلية"،وكتبٌ أخرى وترجمات من العربية إلى الإيطالية.