رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التفسير لا يعنى أبدًا التبرير

محمد الباز يكتب: عن الذى يقدر عليه الدكتور مصطفى مدبولى

د. محمد الباز
د. محمد الباز

فى تراث كاتبنا الكبير محمد حسنين هيكل عبارة تصلح لتفسير الخطاب الحكومى فيما يتعلق بالأزمة الاقتصادية التى نمر بها، وتصاعدت فى الأشهر الأخيرة باعتراف كل المسئولين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة الدكتور مصطفى مدبولى نفسه. 

يقول الأستاذ هيكل: التفسير لا يعنى التبرير. 

فعندما يتحدث رئيس الحكومة عمّا قادنا جميعًا إلى هذا المأزق، فإنه لا يبرر ما جرى ولكنه يفسره. 

وقبل أن تسألنى وماذا يفيدنا التفسير؟ 

هل يعنى أن الأزمة ستنتهى؟ 

وهل يخفف وطأة إحساسنا جميعًا بما يجرى على الأرض حد الاختناق؟ 

وهل يمكن أن يعالج الكلام مشاكل الناس وإحساسهم الطاغى بالإحباط الشديد؟

أقول لك: لن يحل الكلام المشكلة.. لكنه على الأقل سيجعلنا نقف مع الحكومة فى خندق واحد، نساعدها فى الحل، نسهم على قدر ما نستطيع فى الخروج من الأزمة. 

لا يعيش رئيس الحكومة فى برج عاجى، لا يتحرك منعزلًا عن الناس. 

من مصدر مقرب منه عرفت أنه يبدأ عمله فى السادسة صباحًا ولا ينام إلا بعد منتصف الليل، لا يكتفى بمتابعة الأخبار من خلال التقارير الرسمية التى يتلقاها يوميًا من أكثر من جهة، ومن بينها مركز معلومات مجلس الوزراء، ولكنه يتابع الأحداث وهو فى طريقه من بيته فى مدينة الشيخ زايد إلى مكتبه فى العاصمة الإدارية الجديدة عبر المواقع الإلكترونية وصفحات السوشيال ميديا، بل إنه يطلب من مساعديه أن يرسلوا له كل الفيديوهات والمداخلات المنشورة على اليوتيوب من البرامج المسائية ليسمعها بنفسه دون تلخيص. 

ولا يكتفى رئيس الوزراء بذلك، بل ينزل بنفسه ليتابع ما يحدث، وتحديدًا حركة الأسعار على الأرض. 

أثناء الفترة التى ارتفع فيها سعر البيض، قرر أن يختبر المعلومات التى تأتيه من وزارة التموين، وقف أمام أحد المحلات فوجد أن كرتونة البيض تباع بــ١٤٠ جنيهًا، فاتصل على الفور بوزير التموين، وقال له: المعلومات التى وصلتنى منك غير صحيحة، فهل تضللنى؟ لا بد من تصرف سريع. 

معنى ذلك أن الحكومة تعرف عن الأزمة أكثر مما يعرفه الناس. 

ستعترض طريقى وتقول: وإذا كانت الحكومة تعرف أكثر منا ما نعانيه، فلماذا لا تتحرك؟ لماذا لا تتصدى لجنون الأسواق؟ لماذا لا تتخذ قرارات وتقوم بإجراءات تخفف وطأة الأزمة؟ 

سأقول لك: الأمور أعقد من هذا بكثير.. تختلط فيها الظروف الخارجية بالأسباب الداخلية.. ويتعانق على هامشها ما هو سياسى بما هو اقتصادى.. وليس بعيدًا أن تكون هناك أمور تتعلق بالأمن القومى المصرى من الصعب الإفصاح عنها.. ولن تتعجب إذا قلت لك إن الأزمة التى نعيشها مصنوعة فى جزء كبير منها، فهناك من لا يزالون يتربصون بنا، لا يريدون لنا أن نتنفس بحرية.. ولا يرغبون فى أن نعيش بشكل طبيعى. 

هناك رغبة فى إفساد المشهد كاملًا، هناك إصرار على شيطنة من يعملون حتى يصيبهم الإحباط ويحاصرهم القلق ويعتصرهم التوتر فيكفون عن العمل. 

أعتقد أنكم تذكرون ما جرى بعد حديث رئيس الوزراء فى احتفالية تسلم ٣ أبراج فى العاصمة الإدارية الجديدة ضمن منطقة الأعمال المركزية التى تضم البرج الأيقونى. 

كان الدكتور مدبولى يتحدث عن خطة الحكومة للخروج من الأزمة، حدد لهذه الخطة مدى زمنيًا، أشار إلى أن حكومته انتهت من وضع خطة تستغرق ٦ سنوات، وهذا الأمر الطبيعى، فالرئيس فاز بفترة جديدة، هذه الفترة تمتد لـ٦ سنوات، ولا بد أن تضع الحكومة خطة محددة لها. 

لم يكن فى كلام رئيس الوزراء شىء غريب، لكن تناولها جماهيريًا بطريقة لىّ ذراعه كان مقصودًا، بما أثار من حوله الغبار، أصبحنا جميعًا نتعامل معه على أنه قال إن هذه الأزمة لن تنتهى إلا بعد ٦ سنوات، وهو ما أحبط الناس وزرع اليأس فى قلوبهم وعقولهم، وأصبح السؤال هو: هل سنتحمل ست سنوات أخرى؟ وبدأ سيل من السخرية والانتقاد والتطاول على الدكتور مدبولى، رغم أنه لم يقل ذلك. 

هل تريدون أن تعرفوا ما حدث على وجه الدقة؟ 

لقد عقدت الحكومة اجتماعات مكثفة خلال الأشهر الستة الأخيرة مع عدد من الخبراء وأصحاب التجارب الاقتصادية داخل مصر وخارجها. 

جلس الدكتور مدبولى مع عدد من رجال الأعمال أصحاب المحافظ المالية المليارية، استمع منهم، كان سؤاله لكل من اجتمع به هو: كيف يمكننا أن نخرج من هذه الأزمة؟ 

وصل من جلس معهم الدكتور مدبولى إلى ما يزيد على ٤٠٠ شخصية اقتصادية تملك الخبرة، أصحاب تجارب ناجحة، ولديهم آراؤهم الجديرة بالاعتبار، أرادت الحكومة أن تخرج من هذه الاجتماعات بوثيقة- أطلقت عليها «وثيقة التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد»- تكون دليلًا عمليًا وخارطة طريق فيما هو قادم من سنوات، ورغم ثقتها الكبيرة فى هذه الوثيقة وجديتها وعمليتها، إلا أنها قررت أن تطرحها للحوار المجتمعى، فنحن جميعًا شركاء فى هذا الوطن ونريد أن نعبر به إلى الأمام. 

أجمع كل من تحدثت معهم الحكومة خلال الجلسات التى كان يحضرها الدكتور مدبولى بنفسه على أن الحل الوحيد هو تضييق الفجوة الدولارية. 

هذه هى معاناتنا الكبيرة والحقيقية، فقد تجمعت الظروف الدولية علينا فأفقدتنا كثيرًا من دخلنا بالدولار. 

اعترض مواطن طريق الدكتور مصطفى مدبولى ذات مرة عندما كان فى واحدة من جولاته، سأله دون مقدمات: متى تتوقف الحكومة عن إلقاء اللوم على الظروف الخارجية؟ وهل لا توجد أسباب داخلية لهذه الأزمة؟ 

لم يبخل رئيس الوزراء على هذا المواطن بتوضيح الأمر.

قال له: نحن لا نبرر ما يحدث، ولا نبحث عن شماعات لتعليق ما جرى عليها، ولدينا بالتأكيد أخطاء، فنحن نقوم بعمل بشرى يحتمل الخطأ، كما يحتمل الصواب، لكننا واجهنا ظروفًا صعبة بالفعل، وهى الظروف التى شهدها الناس وشهدوا عليها، فقد مرت مصر بفترة شديدة الاضطراب من ٢٠١١ وحتى ٢٠١٤، وعندما استعادت الدولة مؤسساتها كان عليها أن تواجه الإرهاب، وبعد أن خفت وطأة الإرهاب الذى أنفقنا على مواجهته ما يقرب من ١٠٠ مليار جنيه، حطت على العالم كله أزمة كورونا، وقبل أن نفيق من تبعاتها وجدنا أنفسنا وجهًا لوجه مع الحرب الروسية الأوكرانية، ثم جاءت بعد ذلك حرب غزة، وكلها عوامل كان لها أبلغ الأثر على الاقتصاد المصرى. 

فى ظل هذه الأزمات كان على الحكومة أن تحدد أولوياتها. 

تقول لنا أوراق رئاسة مجلس الوزراء إن الحكومة من اليوم الأول ترتب هذه الأولويات على النحو التالى: 

أولًا: تقوم الحكومة بسداد كل التزامات مصر من خدمة الديون وأقساطها، الأمر الذى لا تهاون فيه على الإطلاق، لأنه يتعلق بصورة مصر ووضعها الدولى، فلن تسمح الحكومة بأن يقول أحد إن مصر أفلست وإنها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها. 

ثانيًا: تعمل الدولة على توفير التمويل للسلع الأساسية، وهى السلع التى تعرض توفيرها لأزمة كبيرة بعد الحرب الروسية الأوكرانية والتعثر فى سلاسل الإمداد.

ثالثًا: المحافظة بما هو متاح على عدة خدمات وسلع يمكن ترشيد استهلاكها دون أن تتأثر حياة المواطنين إلى درجة كبيرة. 

لقد احتج كثيرون على خطة الحكومة لتخفيف الأحمال، الأمر الذى لجأت إليه الحكومة مضطرة بشكل كامل، لكن الأوضاع الاقتصادية هى التى جعلتها تأخذ من الميزانية المخصصة لاستيراد الوقود اللازم لتشغيل محطات إنتاج الكهرباء لتوفير سلع أخرى أساسية، عدم وجودها يمكن أن يسبب كارثة. 

سألت أحد المسئولين الكبار: هل هناك حل يساعد الحكومة فى إلغاء خطة تخفيف الأحمال غير استيراد الوقود اللازم لتشغيل محطات إنتاج الكهرباء الذى يحتاج شهريًا إلى ما يقرب من ٤٠٠ مليون دولار؟ 

قال لى: الحل بسيط جدًا.. يمكن أن يرشّد الناس استهلاكهم الكهرباء بنسبة لا تزيد على ١٥ بالمائة فقط، وساعتها لن نكون فى حاجة لتخفيف الأحمال. 

عدت على المسئول مرة أخرى بقولى: وهل لا تعرف الحكومة هذا الحل مثلًا؟ 

قال: الحكومة تعرف هذا الحل جيدًا.. وهى على ثقة كبيرة فيه، لكن المشكلة أن الناس لا تستجيب بسهولة، ولو قلنا لهم رشّدوا استهلاك الكهرباء سيصرخون فى وجوهنا ويتهموننا بأننا نريد أن نغير نمط حياتهم ونحرمهم من طريقتهم التى يعيشون بها. 

تركت هذا الحوار جانبًا، وقلت لنفسى: بالفعل هناك حلول بسيطة لو قمنا بها لخففنا كثيرًا من وطأة الأزمة التى تحيط بنا من كل مكان. 

إننى لن أزايد على أحد، من السهل علىّ أن أهاجم الحكومة، أن أصرخ فى وجهها، أن أتهمها بكل التهم التى تعرفها الصحافة منذ ولدت على وجه الأرض، لكن هذا لن يفيدنا فى شىء. 

تعرف الحكومة المشكلة جيدًا وتعرف الحل أيضًا جيدًا، مصر ببساطة تحتاج الآن حتى تصل لسعر موحد للصرف- فيستقيم الحال فى كل شىء- إلى سيولة دولارية حرة. 

ستسألنى، وأتمنى أن يكون هذا هو السؤال الأخير بينى وبينك هنا: وما الذى يمنع الحكومة من ذلك؟ ما الذى يعيقها عن توفير سيولة دولارية حرة؟ 

سأقول لك: انظر حولك تعرف الإجابة.. وأعتقد أنك تعرف أن إيراد قناة السويس بسبب الأحداث الأخيرة تراجع بنسبة ٤٠ بالمائة، وكل مصادر الدولار الأخرى تأثرت بشكل كبير، لا نستثنى من ذلك السياحة أو تحويلات المصريين فى الخارج أو حتى التصدير. 

اسمح لى أن يكون السؤال هذه المرة من عندى: فهل يعنى ذلك أن نستسلم؟ هل انتهى كل شىء؟ 

سأقول لك بما أعرفه، ليس فى صالح هذا الوطن أن نستسلم، وليس فى صالحنا أن نقول إن كل شىء انتهى، لدى الحكومة مشروعات، سيتم الإعلان عنها خلال أسابيع، ستكون قادرة على تقليل الفجوة الدولارية بدرجة كبيرة، بما يعنى أن الأمل موجود.. وليس أمامنا إلا أن نتمسك بالحلم الذى هو الدواء لداء الإحباط الذى يريد كثيرون أن يغرسونه تحت جلودنا فلا نقدر على شىء. 

يستطيع رئيس الحكومة أن يفعل الكثير. 

يستطيع أن يقف فى مواجهة الأزمة. 

لكنه لن يفعل ذلك وحده.. فلا بد أن نكون جميعًا إلى جواره.. لأن هذا الوطن ليس وطن الحكومة وحدها.. ولكنه وطننا جميعًا.