رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى واشنطن.. إرادة إسرائيل هى العليا

«نحن الإسرائيليين لن ننعم بالأمن إلا عندما يكون لدى الفلسطينيين أمل.. هذه هى المعادلة، فأمن إسرائيل مرتبط بشكل مُعقد بإقامة دولة فلسطينية.. فأنت لا يمكنك ردع أى شخص أو مجموعة، إذا كان يعتقد أنه ليس لديه ما يخسره، مع ضرورة إدراك الإسرائيليين أن حماس لا تمثل جميع الفلسطينيين، لأن الاعتقاد الإسرائيلى السائد بأن جميع الفلسطينيين يدعمون حماس أو ينتمون إليها، يُشكِّل عقبة كبيرة أمام الاعتراف بشرعية الهوية الفلسطينية، ومطالبتهم المشروعة بإقامة دولة».. هكذا أكد القائد السابق لقوات الأمن الداخلى الإسرائيلية «الشاباك»، آمى إيالون، فى مقابلة مع صحيفة الجارديان البريطانية، الذى اقترح إطلاق سراح مروان البرغوثى، الزعيم المسجون الذى يقضى حكمًا بالسجن مدى الحياة، لدوره فى الانتفاضة الثانية، كخطوة حاسمة نحو مفاوضات ذات مغزى، لأن شعبية البرغوثى كبيرة، يمكن أن تؤهله للفوز فى الانتخابات الفلسطينية، كما أنه ملتزم بحل الدولتين، وهذا ما يجعله قائدًا محتملًا لمحادثات السلام.
هذا الرجل إيالون يرى أن فكرة تدمير حماس، باعتبارها هدفًا عسكريًا، غير واقعية، وحذر من أن العمليات الجارية فى غزة قد تعزز الدعم للحركة بدلًا من إضعافها، لكنه يأسف لعدم قبول تل أبيب لوجهات النظر البديلة، والتحول من عقلية الكراهية كخطة أو سياسة، كما حذر من إدامة الصراع دون هدف سياسى واضح، وعقد مقارنات مع التجارب الإسرائيلية السابقة فى لبنان والضفة الغربية، «أنا مستاء للغاية، لأننا لسنا على استعداد لمناقشة اليوم التالي.. لأننى أعرف ما يحدث للحروب بدون هدف سياسي.. تصبح الحرب هدفًا فى حد ذاتها، بدلًا من أن تكون وسيلة لتحقيق هدف سياسي.. هذا بالضبط ما حدث لنا فى لبنان، وهذا بالضبط ما حدث لنا فى الضفة الغربية. وأخشى أن هذا ما سيحدث إذا واصلنا القتال فى غزة، دون تحديد جوهر واضح للنصر، ودون أن نجيب صراحة على سؤال: ما هو النصر؟».. فمن يملك قرار توجيه ما يحدث فى غزة خصوصًا، وفى الشرق الأوسط عمومًا.. واشنطن أم تل أبيب؟.
فى عام 2001، خلال زيارة له فى مستوطنة عوفرا غير القانونية بالضفة الغربية، تفاخر بنيامين نتنياهو الذى يبدو أنه كان غير مدرك أنه يتم تسجيل كلامه أمام مضيفيه بأن «أمريكا شيء يمكنك تحريكه بسهولة شديدة.. تحريكه فى الاتجاه الصحيح لإسرائيل».. فى ذلك الوقت، كان نتنياهو يتحدث عن تجربته مع البيت الأبيض فى عهد كلينتون، وكان قد قوَّض جهود السلام التى تقودها واشنطن، خلال فترته الأولى كرئيس لوزراء إسرائيل.. ولكن بعد أكثر من عشرين عامًا، تبدو نظرة نتنياهو لأمريكا ظلت كما هي. 
منذ أن تعهدت إدارة بايدن بدعمها المبكر والثابت لإسرائيل، فى أعقاب عملية حماس فى السابع من أكتوبر، تباطأ نتنياهو مرارًا وتكرارًا فى تنفيذ طلبات واشنطن فيما يتعلق بالحرب، بما فى ذلك أن تستخدم إسرائيل قدرًا أكبر من ضبط النفس فى حربها ضد غزة، وتجنب إثارة حريق إقليمى أوسع نطاقًا، والعمل على صياغة مسار ما بعد الحرب نحو السلام.. ونتيجة لذلك، ومع دخول الحرب شهرها الرابع، لم تحقق إدارة بايدن أيًا من أهدافها تقريبًا، فيما يتعلق بالسياسات والإجراءات الإسرائيلية التى قتلت أكثر من أربعة وعشرين ألف فلسطيني، من بينهم أكثر من اثنى عشر ألف طفل، حتى الآن، ويلوح فى الأفق خطر المجاعة الجماعية والمرض.. رفضت الحكومة الإسرائيلية أى أفق للسلام.. وبعد توقف أولى للقتال وتبادل المحتجزين لدى حماس، يبدو أن مثل هذه المحادثات وصلت الآن إلى طريق مسدود.. النجاح الوحيد الذى يمكن أن تدعيه الولايات المتحدة، هو دعمها الثابت لإسرائيل، ومع ذلك، فإن الطبيعة غير المشروطة لهذا الدعم، تقف فى طريق أى احتمال لتحقيق أهداف سياستها الأخرى، وإيجاد طريق للخروج من هذا الرعب.
صحيح أنه فى الأيام الأخيرة، أشارت إسرائيل إلى تحول فى استراتيجيتها الحربية، باستخدام عدد أقل من القوات والتركيز أكثر على وسط وجنوب غزة.. ويبدو أن هذه الخطوات مدفوعة جزئيًا بالحاجة إلى خفض الخسائر الإسرائيلية فى المناطق القريبة من القتال فى المدن، لتقديم بعض الراحة للاقتصاد الإسرائيلى الذى يعاني، وربما استعدادًا للتصعيد على الحدود الشمالية لإسرائيل.. لكن لا يبدو أن مثل هذه التحولات تهدف إلى تخفيف حدة التوترات الإقليمية المتصاعدة، ولن تمنع المعاناة الإنسانية المتزايدة فى غزة.. وهذا ما دفع الرئيس الأمريكي، جو بايدن أن يبدو غاضبًا بشكل متزايد من التطورات على جميع الجبهات، وترددت الإحباطات فى تعليقات وزير خارجيته، أنتونى بلينكن، خلال زيارته الأخيرة للمنطقة.
هنا، يرى دانيال ليفي، رئيس مشروع الولايات المتحدة والشرق الأوسط، والذى عمل كمفاوض سلام إسرائيلى فى محادثات أوسلو، فى عهد رئيس الوزراء، إسحاق رابين، ومفاوضات طابا فى عهد رئيس الوزراء، إيهود باراك، وهو الكاتب الزائر فى صحيفة نيويورك تايمز، أنه بدلًا من تضخيم تعبيرات القلق الشفاهي، يجب على فريق بايدن تصحيح المسار، بدءًا من ممارسة النفوذ الدبلوماسى والعسكرى الحقيقى المتاح له، لتحريك إسرائيل فى اتجاه المصالح الأمريكية، وليس العكس.
التحول الأول والأكثر أهمية، أن تتبنى الإدارة الأمريكية الحاجة إلى وقف كامل لإطلاق النار الآن.. ولا يمكن أن يكون ذلك المطلب خطابًا فحسب، يجب على الإدارة أن تشترط نقل المزيد من الإمدادات العسكرية إلى إسرائيل بإنهاء الحرب، ووقف العقاب الجماعى للسكان المدنيين الفلسطينيين، ويجب أن تنشئ آليات إشراف على استخدام الأسلحة الأمريكية الموجودة بالفعل تحت تصرف إسرائيل، لأن إنهاء عملية إسرائيل فى غزة هو أضمن طريقة لتجنب حرب إقليمية، والمفتاح لاختتام المفاوضات لإطلاق سراح الرهائن.. ثانيًا: يمكن لواشنطن الاستفادة من المداولات الجارية فى محكمة العدل الدولية، حيث اتهمت جنوب إفريقيا إسرائيل بانتهاك التزاماتها كدولة موقعة على اتفاقية الإبادة الجماعية الدولية لعام 1948.. ومن الواضح أن إسرائيل متوترة بشأن الإجراءات، وتفهم أن حكمًا صادرًا عن محكمة العدل الدولية له ثقل.. والواقع أن جنوب إفريقيا ربما تكون قد عملت بالفعل لتغيير مسار الأحداث بعد أكثر من ثلاثة أشهر من القلق الأمريكي.. وهنا، لا تحتاج إدارة بايدن إلى دعم ادعاءات جنوب إفريقيا، لكن يمكنها، ويجب عليها، الالتزام بالاسترشاد بأى نتائج تتوصل إليها المحكمة.
وأخيرًا، يجب على الولايات المتحدة أن تمتنع عن إطلاق تعويذات طقوسية لا نهاية لها حول حل الدولتين فى المستقبل، والتى من السهل جدًا تجاهلها من قبل نتنياهو.. يجب أن تأخذ فى اعتبارها رفض حكومته القاطع لإقامة دولة فلسطينية، ومبادئ تل أبيب التوجيهية الائتلافية المكتوبة، التى تؤكد أن «للشعب اليهودى حقًا حصريًا وغير قابل للتصرف فى جميع أجزاء أرض إسرائيل»!!.. وبدلًا من ذلك، يجب على واشنطن أن تتحدى إسرائيل لتقديم اقتراح حول كيفية ضمان المساواة والحقوق المدنية الأخرى، لجميع أولئك الذين يعيشون تحت سيطرتها.. إن القيام بذلك، يمكن أن تكون له فائدة إضافية، تتمثل فى تحدى موقف نتنياهو.. وعلى الرغم من أنه يبدو أنه عزز قاعدته السياسية فى الوقت الحالي، إلا أن أغلبيته الحاكمة ستُفقد مع حفنة من الانشقاقات، خصوصًا أن حوالى 15% فقط من الإسرائيليين يريدون بقاء نتنياهو فى السلطة بعد انتهاء هذه الحرب، وفقًا لاستطلاعات الرأى الأخيرة، وقد تشتعل احتجاجات الشوارع فى أى لحظة.
ولمجموعة من الأسباب الأيديولوجية والعسكرية والسياسية الشخصية، ربما لا يريد نتنياهو أن تنتهى هذه الحرب.. وعلى الرغم من أن وفاته ليست حلًا سحريًا للتقدم ولا يمكن أن تكون هدفًا صريحًا للولايات المتحدة، إلا أنها شرط مسبق لتهيئة الظروف، التى يمكن فى ظلها النهوض بالحقوق الفلسطينية.. يمكن للولايات المتحدة، ويجب عليها، أن تنأى بنفسها عن كارثة غزة وتطرف قادة إسرائيل.. وإذا لم تغير واشنطن نهجها، فإن إخفاقاتها فى هذه الحرب ستكون لها عواقب، حتى أبعد من الأزمة المباشرة فى غزة، والأعمال العدائية التى يشارك فيها الحوثيون فى اليمن، والتهديد المتزايد بنشوب صراع إقليمى أوسع.. فالعالم، بعد كل شيء، يراقب، ولا ينبغى لواشنطن أن تقلل من شأن المدى الذى يُنظر فيه إلى الهجوم الذى لا يحظى بشعبية كبيرة على غزة على مستوى العالم، على أنه ليس فقط حرب إسرائيل، ولكن حرب أمريكا أيضًا.. إن نقل الحكومة الأمريكية للأسلحة إلى إسرائيل والغطاء السياسى الدبلوماسى الذى توفره، بما فى ذلك استخدام حق النقض أو التهديد به فى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يجعل ضلوعها فى الحرب واضحة للغاية ومدمرة.
هناك آثار أمنية طويلة الأجل أيضًا يراها ليفى، ويكاد يكون من المؤكد أن الحملة العسكرية الإسرائيلية القاسية وتأثيرها العميق على المدنيين، سيوفران مواد تجنيد للمقاومة المسلحة لسنوات قادمة.. وسوف تجد الدول العربية التعاون وتطبيع العلاقات مع إسرائيل أكثر عبئًا، ويكتسب خصوم إسرائيل صدى أكبر: حماس تُظهر مرونة، والحوثيون قدرة هجومية مثيرة للإعجاب، وحزب الله ضبط النفس المنضبط.. مع توضيح إسرائيل قولًا وفعلًا عزمها على الاستمرار فى هذا المسار الخطير، غير مبالية باحتياجات الولايات المتحدة وتوقعاتها.. ألا ينبغى على الرئيس بايدن أن يحافظ على مسافة أكبر مع إسرائيل؟.
الواقع يقول بأن بايدن لا يمتلك تلك الرفاهية.
فقواته المتحالفة مع بريطانيا تهاجم مواقع الحوثيين فى اليمن، ليس من أجل حماية التجارة الدولية، كما تدعى لندن وواشنطن، إذ أعلن الحوثيين عن أنهم لن يستهدفوا إلا السفن الإسرائيلية فى باب المندب، أو الأخرى المتجهة من وإلى إسرائيل فقط، وأن ذلك سيتوقف عندما تتوقف الاعتداءات الوحشية على غزة.. لم تستطع واشنطن فرض إرادتها على تل أبيب، ودخلت حربًا فى اليمن يمكن أن تؤجج الصراع فى الإقليم كله، وتصبح هى حربًا فى المستقبل قائمة بذاتها، حتى لو توقفت الاعتداءات الإسرائيلية على غزة.. ولو أدى ذلك إلى التوقف الكلى للملاحة فى البحر الأحمر وتفاقم التضخم العالمى من جديد، وحتى لو خسرت دولة مثل مصر كلية، موردًا أساسيًا من موارد دخلها القومي، بعدما تأثرت حركة المرور فى قناة السويس حتى الآن بنسبة 70%، مما كانت عليه من قبل.. المهم أن تُرضى واشنطن تل أبيب، وترضى إسرائيل عن أمريكا.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.