مفردات قليلة وعالم دون فواصل
بدأ الفنان عادل السيوى ترجمة أعمال أونجاريتى الكاملة عن الإيطالية سنة ١٩٩٢، «أونجاريتى-حياة إنسان»، وأكرمنى باختيارى معه لقراءة ما يتم إنجازه أولًا بأول، وربما قَبِل ببعض اقتراحاتى فى صياغة بعض النصوص فى اللغة العربية، وسافرنا معًا مع الجزء الأكبر إلى الإسكندرية فى صيف ٢٠٠٤ لأعيش واحدة من أهم تجاربى مع فن الشعر، مع الشاعر الإيطالى السكندرى «١٨٨٨- ١٩٧٠»، الذى مات والده فى حفر قناة السويس، وكانت تمتلك أمه مخبزًا فى حى محرم بك، والذى لم يحصل على جائزة نوبل فى الآداب لأن ديوانه «الميناء المدفون» قدم له موسولينى، وهو الديوان الذى كتبه فى أثناء تجنيده فى الحرب العالمية الأولى على ورق الذخائر، وأعطاه أحد الجنود لموسولينى. تصدى لترجمة قصائد أونجاريتى قبل السيوى، «الذى سبق أن ترجم وقدم كتابين من أهم كتب الفن هما نظرية التصوير لدافنشى، ونظرية التشكيل للفنان الألمانى بول كيلى»، الشاعر العراقى الكبير الراحل سعدى يوسف، الذى سبق أن ترجم له عن الإنجليزية، وترجم له أيضًا عن الفرنسية شاعرنا الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى بعض القصائد، وكانت ترجمة عبدالغفار مكاوى، رحمة الله عليه، الأقرب إلى روح الشاعر، وكتب صاحب ثورة الشعر الحديث فى تقديمه للمختارات المترجمة: «فوجئت بالرأس الأشيب الوقور والوجه الأبيض العريض يقترب منى وينحنى فوق قامتى القصيرة، وبالصوت الأجش الخفيض يسألنى: من القاهرة؟ قلت: نعم.. قال الرجل، وهو يعتدل بقامته الطويلة ويمد ذراعه ليربت بكفه على كتفى: أنا مثلك مصرى، ولكن من الإسكندرية، ولدت فى الإسكندرية منذ زمن طويل»، حدث ذلك عام ١٩٥٣ فى جامعة بيروجا أيام كان مكاوى يتعلم الإيطالية، وكان أونجاريتى محاضرًا وضيفًا على الجامعة. الإسكندرية التى غادرها سنة ١٩١٢ غمرته بثقافات متعددة فى طفولته وصباه، ولذلك قال عن نفسه إنه ثمرة تلاقحات شتى، وانخراطه فى فرنسا مع نجوم الفكر والشعر والفلسفة والموسيقى، وخبراته التى اكتسبها، أدخلته فى منطقة لم يستوعبها الواقع الإيطالى، حيث كانت الخطابية والبلاغة الرنانة تصبغ الشعر الإيطالى، وظهر متشددون طالبوا بمحاكمته بتهمة تدمير اللغة، والمفارقة أن هؤلاء أصبحوا من أشد المدافعين عنه فيما بعد. بدأ رحلة الدراسة سنة ١٨٩٧ بمعهد دون بوسكو التابع للإرسالية الإيطالية، وقد درس فيه أيضًا قبل أونجاريتى الشاعر الإيطالى الكبير مارينيتى، الذى أسس فى ميلانو وباريس تيار المستقبلية بعد ذلك، وهو التيار الذى ترك بصمة كبيرة على الفن والشعر الأوروبى الحديث.
تتلمذ أونجاريتى على يد قسطنطين كفافيس، فى ١٩٠٨، وخاض مغامرة ثورية كبيرة لتحرير بحارة المدرعة الروسية الشهيرة بوتمكين، التى خلدها المخرج الروسى آيزنشتين فى فيلمه الشهير «المدرعة بوتمكين»، وكانت متوجهة من روسيا إلى مدينة ميسينا بجزيرة صقلية، التى كان زلزال مدمر قد ضربها بشدة، وكانت المدرعة تحمل معونات لضحايا الزلازل، وقامت ثورة على المدرعة لسوء المعاملة واضطهاد الضباط للبحارة.
وفى رحلة العودة توقفت المدرعة فى الإسكندرية، وطلبت السلطات القيصرية من الحكومة المصرية تسليم البحارة المتمردين للسلطات الروسية بمصر لمحاكمتهم فى روسيا، ووافقت الحكومة المصرية على طلب القيصر، لكن مجموعة من المثقفين الذين يعيشون فى الإسكندرية، ومن بينهم الشاعر أونجاريتى، اعترضوا القطار فى كفرالزيات وحرروا البحارة، وتم القبض على أونجاريتى ورفاقه بتهمة الهجوم والتعرض للقطار وتهريب المتهمين، وزعزعة علاقات مصر بإيطاليا، ولكن محاكم الامتيازات الأجنبية سمحت بمحاكمته داخل القنصلية الإيطالية وأمام قضاة إيطاليين، ومن ثم إيقاف الحكم عليه. وفى عام ١٩١٢ غادر أونجاريتى مصر لمتابعة دراسته فى فرنسا، ثم غادر باريس واستقر فترة فى إيطاليا، وبعدها انتقل مع أسرته إلى البرازيل، وكانت حياته ترحالًا متواصلًا، لكن رغم تنقله الدائم بقيت خبراته فى مصر زاده الذى لا ينضب، كان من أعز أصدقائه شاعر مصرى صاحب وجهة نظر مختلفة فى الفن والحياة يُدعى محمد شهاب، من أصول بدوية، سافر معه إلى باريس، وأصبح مقربًا من بودلير ومن النخبة المبدعة فى باريس، وكان يسكن مع أونجاريتى فى الفندق نفسه، وبعد عام تخلص من حياته. يطل شهاب كثيرًا فى شعره كأكبر فقد تعرض له. أونجاريتى لا يشبه أحدًا، مفردات قليلة وعالم شاسع دون فواصل ولا علامات ترقيم، يرفض اللغة الأدبية والنظم التقليدية فى الكتابة، ولا يلجأ إلى الحيل البلاغية، كتب: لا أعتقد أن الشعر العربى هو شعر ملون، وإنما هو شعر موسيقى لا ألوان، ذلك الصوت البطىء الهادئ الذى يظهر ثم يختفى ليرجع مرة أخرى، ويعاود التكرار، فى الغناء العربى، هذا ما شدنى بقوة.. وأنت تقرأ شعره تحس بأن الجو غائم حتى لو كانت الشمس ساطعة، وقال عنه المخرج والشاعر بازولينى: إن الكلمات تخرج من فم أونجاريتى وكأنها شفرات مصقولة تجرح زجاجًا خفيًا لا نراه.