رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حسين حمودة: ظاهرة «البيست سيلر» غش تجارى ولا تقوم على أرقام حقيقية.. والذكاء الاصطناعى لن يصنع «نجيب محفوظ جديد»

الدكتور حسين حمودة
الدكتور حسين حمودة

رأى الدكتور حسين حمودة، الأستاذ المتفرغ بتخصص النقد الحديث فى كلية الآداب جامعة القاهرة، أن مصر لا تعانى من مشكلة فى الخيال الإبداعى، لكنها تعانى من غياب المنظومة القادرة على استثمار ذلك الخيال، فنيًا وأدبيًا وعلميًا.

واعتبر «حمودة»، خلال حديثه إلى برنامج «الشاهد»، الذى يقدمه الإعلامى الدكتور محمد الباز، على فضائية «إكسترا نيوز»، أن هناك فجوة حاليًا فى العالم كله بين النقد والإبداع، مع عزلة للناقد الأكاديمى داخل «سجن المصطلحات العقيمة»، والاجتهادات النظرية الغريبة أو غير المجدية، فى الوقت الذى تحول فيه الكتّاب والقراء إلى نقاد على وسائل التواصل الاجتماعى.

كما أشار إلى أن المشهد الأدبى يعانى من غياب «الناقد الجسر»، الذى يصل بين النص والجمهور، معتبرًا أن هناك تجارب أدبية، مثل أحمد خالد توفيق وأحمد مراد، واجهت «تعاليًا» من المبدعين والنقاد، رغم أنها تستحق الدراسة والاهتمام.

■ هل هناك عطب فى الخيال فى مصر؟.. ولماذا لا نجد أعمالًا أدبية كبرى ونظريات فلسفية كبرى فيها؟

- الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن تتشعب لمجالات متعددة، وأتصور أنه لا توجد مشكلة فى الخيال الإبداعى، على الأقل على مستوى الفنون والإبداع، فهناك أشكال أدبية جديدة تتجاوز كل التعقيدات، ومحاولات وضع قواعد على مستوى استكشاف طرق للتعبير متعددة ومختلفة، ولكن هناك معوقات أخرى تأتى من استثمار الخيال ومتابعته أو مواكبته بالأفكار، أو توجيهه فى وجهات معينة من الممكن أن تفيد الفرد والجماعة فى المجتمع المصرى.

والمداخل المرتبطة بمقاربة هذا الخيال مداخل مدرسية لحد كبير، تنطلق من فكرة القواعد المسبقة، والتى نتجت عن دراسة خيال سابق وليس الخيال المتجدد، والتى من الممكن أن تسهم فى تقييد الخيال أو تحجيمه، لأنها تساعد وتدعم فكرة الحدود الآمنة التى يمكن أن يتحرك فيها المبدع، لكن المبدعين الحقيقيين لا ينتظرون قواعد جديدة فى كل عمل لديهم.

وهناك مشكلات أخرى تتصل بالخيال الذى يمكن أن يكون إبداعًا فنيًا أو أدبيًا، أو يكون فيه استشراف واستكشاف لنظريات جديدة أو قراءة للتاريخ المصرى، وهى حافلة بمتغيرات كثيرة بحكم وضع مصر، لأنها سرة العالم، وهو ما يضع سياقات أخرى مختلفة تعيد النظر فى الزمان والمكان وفى الموقع والتاريخ فى مسيرته السابقة، اعتمادًا على الخيال، مثلما فعل المقريزى فى نصوصه، فهو كاتب خيالى بامتياز، ويصطنع تاريخًا سابقًا على الفترة التى يعالجها، بداية من عصر الأهرامات.

وهناك مشكلات فيما يخص مسيرة التاريخ، يمكن تلخيصها فى الذاكرة المتقطعة، التى تجعل الشخص يبدأ بداية جديدة من الصفر دون أن يكمل على مسيرة سابقة، ويمكن أن يمثل ذلك مشكلة كبيرة فى التعامل مع الثقافة والهوية، لأننا لا نستكمل الاجتهادات السابقة علينا. 

ولدينا مشكلات، أيضًا، فيما يخص الخيال العلمى، منها أننا لا نعطى الفرص والإمكانات الكاملة لإظهاره، وهجرة بعض العقول المصرية العلمية إلى بلدان أخرى، مثل مشكلة هجرة الأطباء، وتجربة الدكتور أحمد زويل الذى كان سيعانى من مشكلات كثيرة لو مكث فى مصر، وربما لن يكون له فريق عمل يكمل اجتهاده، ولذا فإن لدينا علماء أفرادًا كثيرين، ولكن ليست لدينا منظومة، ونحن نتحرك ببطء فى سبيل تجاوز التحديات والمشكلات التى نواجهها فى العقود الأخيرة، وإن كان لا يزال لدينا أمل فى أن نتجاوزها.

■ هل يوجد خلاف بين المبدع والناقد؟.. وهل تفتقد مصر حركة نقدية تسهم فى ازدهار العملية الإبداعية؟

- هذا هو التوصيف المناسب، فنحن لدينا فجوة كبيرة بين الأعمال الإبداعية والفنية بشكل عام وبين المتابعة النقدية، وهذه الظاهرة فى جانب منها ليست خاصة بمصر وإنما بالعالم كله، فهناك تراجع لسطوة النقد التى كانت موجودة فى فترة من الفترات، مع غياب «الناقد الجسر» الذى كان يصل بين النصوص الإبداعية والفنية بشكل عام وبين الجمهور الواسع، بالإضافة إلى عُزلة النقد الأكاديمى فى سجن المصطلحات والتطبيقات البليدة والعقيمة لاجتهادات نظرية نبعت من سياقات أخرى مختلفة وغريبة، وبعضها ليس له جدوى حقيقية.

ولذا، فإن أبلغ الرسائل الأكاديمية عن نصوص السرد تنطلق من تصورات لدارس أو ناقد أو باحث، وتصورات حول عتبات النص، بما فيها عتبة الغلاف والعناوين والمداخل الأولى فى النص، وكلهم يطبقون الآليات تطبيقًا أعمى لا يفيد فى مقاربة جوهر النصوص التى يتعاملون معها، فالغلاف رؤية من الفنان التشكيلى وليس المبدع.

كما أن هناك مشكلات أخرى مرتبطة بالمسافة بين الأعمال الإبداعية والنقد الذى يلاحقها، وجزء منها مرتبط بطرق التدريس والمناهج التعليمية.

■ هل استطاع المبدعون فى مصر أن يحاصروا النقاد؟

- هناك عوامل أخرى أسهمت فى إزاحة الناقد، منها الرؤية والقصة من النقد ووسائل الاتصال الحديثة التى أتاحت لعدد كبير من القراء أن يتحولوا إلى نقاد، والكاتب والقارئ تحولا إلى ناقدين، والحقيقة أنه لا تجب الاستهانة بهم وبالانطباعات الشخصية، بغض النظر عن الأدوات النقدية التى يستخدمونها ودقتها، لأن الانطباعات التى يقدمونها مهمة جدًا، وإن لم تكن نقدًا منظمًا، فمن الممكن أن يسفر النقد الانطباعى عن نتيجة نقدية وتكون له جدوى كبيرة.

وبشكل عام، فإن حجم المجلات التى يمكن أن تهتم بالجوانب النقدية فى مصر والوطن العربى يظل أقل من العدد المطلوب للمتابعة، كما أن اهتمامات بعض وسائل الإعلام ليست كافية أو مفيدة لحركة الإبداع المتغيرة باستمرار.

■ هل السطوة التى أخذها المبدع «المؤلف» على حساب الناقد أضرت بالمنتج الإبداعى فى مصر؟

- ليست للأمر علاقة بالضرر والإفادة بقدر ما له علاقة بالمسئولية التى ألقيت على عاتق المبدعين، فممارسو الإبداع أصبحوا ينشرون عبر وسائل الاتصال التى حلّت مشكلات كثيرة تخص النشر، وأصبحوا يخضعون لعملية الانتخاب الطبيعى ليكون البقاء للأصلح.

ولكن مساحة الضرر ترتبط بتراجع النقد بشكل عام، فالمبدع له مساحة بغض النظر عن تواجد متابعة نقدية أم لا، وأصبح كل مبدع تُكتب عنه وجهات نظر متناقضة، وهو ما واجهه الأديب نجيب محفوظ مثلًا عندما كتب «اللص والكلاب»، التى كتب عنها أنها رواية فاشلة رغم أنها عظيمة، لكن تجربته كانت قد قطعت شوطًا كبيرًا، وهو ما لا ينطبق على مبدعين كثيرين، لأنهم يحتاجون إلى أن يطمئنوا بشكل ما على كتاباتهم.

■ هل نقاد الجيل الحالى يستسلمون على عكس «نقاد زمان»؟

- الأمر له علاقة بوضع النقاد الآن، لأن أغلب من يمارسون الكتابة النقدية يمارسونها على هامش أعمال أخرى، فليست هناك مساحة للناقد المتفرغ الذى يستطيع أن يتعيش من نقده، لأنه فى النهاية لديه التزامات، وبالتالى أصبح قسم من الأكاديميين يمارسون النقد كباحثين، وهذه مشكلة من مشكلات النقد، فهناك استسلام اضطرارى فى حدود ما يسمح به وما يمكن أن يمارس.

■ هل القراء فى مصر اختلفوا عن «قراء زمان»؟

- لم يعد قسم كبير من المتلقين للأدب موجودين، بل أصبحت هناك طرق أخرى للمعرفة، أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعى التى وضعت طرقًا جديدة للنشر، وهناك الأفلام التسجيلية التى يمكن أن تصل بالقراء إلى نتائج كانوا يتلقونها من الأدب، كما أن خريطة الأدب نفسها تغيرت.

ورغم ذلك، فإن هناك مثلًا تجارب لمبدعين احتفوا بالرواية فى الغرب واستجابوا لأعراف بعينها، وكانت لديهم قدرات على الكتابة بطرق مختلفة، مثل جوان كاثلين رولينج، مؤلفة سلسلة «هارى بوتر»، فهى دارسة للأدب الإنجليزى، لكنها أبدعت واختارت طريقًا بعينه يتوجه لدائرة من المتلقين لها أعمار واهتمامات بعينها، وهذا الإبداع بطريقة مختلفة لقى استجابة من المتلقين، وأدى لرواج طائفة معينة من المبدعين.

■ ظاهرة أحمد خالد توفيق كيف تراها؟ وما قيمة ما أنتجه؟

- أحمد خالد توفيق ظاهرة إيجابية جدًا رغم أن عددًا من الأصدقاء يختلفون معى حول ذلك، لأنه خاطب دائرة واسعة من المتلقين، وبعضهم اكتفى بأعماله، وآخرون انتقلوا إلى قراءات أخرى.

وبعض المبدعين رأوا أنه انتزع منهم قراءهم، لكنه كان يفتح أبوابًا لآخرين، فالنوعية التى يكتب بها كانت لها علاقة بعصرنا واهتمامات عدد كبير من قبل الشباب.

وأحمد خالد توفيق ظل هو نفسه فى كل ما كتب، وإن كانت اهتماماته توزعت فى مجالات بعينها، وإن كان هناك تصور بأن بعض ما كتبه يندرج تحت الأدب العميق، ولكنه كان يكتب ما يريد ويكتشف الروابط والوسائط التى تصل بين كتاباته وعموم القراء.

وبالطبع كان هناك تعالٍ من بعض المبدعين والنقاد على تجربته، يشبه ما تعرض له إحسان عبدالقدوس، وهذا ضيق أفق من الناقد، لأنه يحاول أن يفرض تصوراته حول نوع ما من الإبداع.

■ ما رأيك فى أحمد مراد؟

- الكاتب أحمد مراد هو امتداد من جانب ما لأحمد خالد توفيق، ومستوعب له ولتجارب أخرى، وإن كان ينحو منحى آخر خاصًا بالأمور المرتبطة بقضايا جوهرية، وأحيانًا بنوع من البحث والتقصى، مثل رواية «١٩١٩» المرتبطة بثورة ١٩، وهو يستحق العناية والدراسة.

■ ما تعليقك على انتقاد بعض المبدعين لمجلة «عالم الكتاب» عندما وضعت صورة أحمد مراد على غلافها ما اضطرها لحذف الصورة؟

- هذا من أسباب تسييد نمط أو رؤية ما حول الأدب دون أن ترتبط بالواقع الأدبى المطروح، وهذا يحتاج لنوع من المراجعة وإعادة النظر، فأحمد مراد وأحمد خالد توفيق هما جزء من تجربة تستحق الاهتمام والدراسة، مثل تجربة صالح مرسى فى أدب البحر وأدب المخابرات.

■ ما تعليقك على ظاهرة الأكثر مبيعًا أو «البيست سيلر»؟

- «البيست سيلر» أو «الكتاب الأكثر مبيعًا» ظاهرة سلبية لغياب الأرقام الحقيقية، فعادة ما تكون كل طبعة مكونة من عدد محدود من النسخ، ويتم توظيف ذلك اقتصاديًا بالنظر إلى الكتاب باعتباره سلعة، وعندما يوضع على غلاف الكتاب أنه الطبعة رقم ٢٥ مثلًا فهذا يزيد من تسويقه، ويمكن النظر إلى ذلك على أنه غش تجارى.

■ هل يمكن صناعة كاتب أو مبدع.. أم أن الأمر يرتبط بالاستعداد الشخصى؟

- لا يمكن صناعة كاتب أو مبدع، ولكن يمكن تنمية موهبة، لأن صناعتها من الصفر مستحيلة.

■ ما رأيك فى استخدام برامج الذكاء الاصطناعى فى الإبداع؟

- قمت بتجربة بعض برامج الذكاء الاصطناعى لأرى إمكاناتها، وحمّلت برنامجين، منهما «شات جى بى تى» الشهير، وطلبت منه كتابة قصيدة عن أشكال التواصل، فكتب قصيدة فيها اجتهاد ما ووضع صورًا نمطية وصورًا جذابة حول التواصل الذى يأتى عبر النقرات، لكن التجربة والصور تقول بشكل مباشر أو غير مباشر إنها مزيفة. ورغم أنى لم أقرأ روايات كتبتها برامج الذكاء الاصطناعى، لكن يمكن أن أزعم مسبقًا أنها لن تصل لآفاق بعينها فى الأدب، لأن هناك حوافز حرة ليست لها علاقة بالحبكة الأساسية، فالكتّاب العظام عبر التاريخ أعمالهم حافلة بالحوافز الحرة، لأنها تأتى عبر ومضات فى حياتهم، ومن المستحيل تغذية أى برنامج من الذكاء الاصطناعى بهذا المعنى، لأنه يجمع سلسلة من الأعمال التى كتبت ويستنبط منها شخصيات معينة ويتحرك مثل تحرك الدائرة، ولكن المبدع يخلق قواعد جديدة. وبالطبع، لا أستطيع المصادرة على برامج الذكاء الاصطناعى، التى قد تكون مفيدة فى مجالات علمية، لأنها نجحت فى مجالات أخرى غير الإبداع، واكتشفت ٤ أدوية مهمة فى وقت قياسى كان يمكن أن تحتاج لعشرات السنين فى اكتشافها، لكن فكرة دخولها فى مجال الأدب تحتاج إلى أن ننتظر لنرى إلى أين تصل، فالأدب بصمة لا تتكرر، والأدباء والمبدعون يتواصلون فى كتاباتهم مع جماليات الكتابة، وتكون كل تجربة منفردة، وتخلق قواعد جديدة، لذا لن يكون لدينا نجيب محفوظ آخر بالذكاء الاصطناعى أو يوسف إدريس، لكن يمكن أن يكون لدينا أدباء حقيقيون من أمثالهم.