رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحديات الأمن القومي والاقتصاد المصري (2)

كان اللافت للنظر في انتخابات الرئاسة المصرية الأخيرة، أن الأحزاب المصرية لم تجتمع على شيء من قبل، بقدر تحالفها واتفاقها التام، بأن يقف جميع أعضائها وقياداتها صفًا واحدًا خلف القيادة السياسية، ويدعمون بقوة المرشح عبد الفتاح السيسي، لأنه الأصلح لقيادة الدولة خلال المرحلة المقبلة من عُمر البلاد، والتي تتطلب مجهودًا أكبر وقيادة حازمة لاستكمال مسيرة التنمية، والحفاظ على هيبة الدولة المصرية خارجيًا.

لذا، لم يكن غريبًا أن يُنظم تحالف الأحزاب المصرية، مؤتمرات جماهيرية لدعم المرشح السيسى، بحضور قيادات هذا التحالف المكون من إثنين وأربعين حزبًا سياسيًا، من أجل استمرار حالة الأمن والأمان واستكمال الإنجازات، بالإضافة إلى أنه هو الوحيد القادر على مواجهة التحديات، وخصوصًأ التحديات الأمنية التي تحولت إلى تهديدات، بسبب توتر الأحداث بشكل متصاعد في فلسطين المحتلة، وعلى خلفية ضرورة مواجهة المؤامرات التي تُحاك ضد الدولة المصرية من دول كثيرة، الأمر الذي يحتم أهمية وجود رئيس قوي على رأس الدولة، لديه دراية وحكمة وصبر في التعامل مع جميع الملفات التي تهدد الدولة المصرية برمتها.

ولذا، فإن الانتخابات ـ في نظري ـ لم تكن من أجل اختيار رئيس، بقدر ما كانت استفتاءً على الولاء للدولة المصرية، التي يحوطها طوق النيران من جهاتها الأربع.. وقد تكلمنا بالأمس عن الحرب في غزة، واليوم ـ وكما وعدنا ـ نتناول الوضع المتأزم في السودان، وما يرتبط به من تداعيات تخص سد النهضة الإثيوبي، ودوره في احتمالية نشوب حرب، لكن هذه المرة، ستكون حرب المياه.

**
يمكن أن يكون للحرب في السودان آثار إقليمية كبيرة، لاسيما إذا انخرطت الدول المجاورة في الصراع.. ربما تكون مصر وجنوب السودان من بين البلدان الأكثر عرضة للتأثيرات السلبية من جراء تصعيد الصراع.. يعني الموقع الجغرافي للسودان، على جانبي نهر النيل، أن عدم الاستقرار في الخرطوم يمكن أن يفرض تحديات اقتصادية واجتماعية.. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي عدم الاستقرار في السودان إلى تعطيل الجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاق بشأن ملء وإدارة السد الإثيوبي، كما كان واضحًا في اجتماع لجنة المفاوضات الأخير، وهو مصدر قلق لمصر والسودان على وجه التحديد.

وعليه يُشكل استمرار الصراع خطرًا على الأمن القومي لمصر.. ففي ظل أوضاع التحول الاقتصادي الصعبة، تبذل مصر كل ما في وسعها للتعامل مع التدفق الجماعي للأشخاص الفارين من نار الحرب السودانية ـ السودانية إلى الداخل المصري، ومن المتوقع أن يصل العدد إلى مليون شخص، بما في ذلك العديد من المواطنين السودانيين والمصريين هناك.

تداعيات الصراع ـ في حال استمراره ـ سوف تكون بالغة الأثر في منطقة أمنية قلقة ومعقدة.. وهنا، يمكن تطبيق مفهوم (تأثير الفراشة) على الحرب في السودان، بمعنى أن الأحداث أو القرارات الصغيرة، يمكن أن يكون لها عواقب كبيرة وغير متوقعة.. في سياق الحرب، يمكن للإجراءات التي اتخذتها مختلف الأطراف، سواء أكانوا قادة سياسيين أو جماعات مسلحة أو جهات خارجية، أن تُفضي إلى سلسلة من الأحداث التي تحدد مسار الصراع ونتائجه.

على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي عمليات التعبئة الجماعية التي يقوم بها كل طرف، إلى تصعيد التوترات بين المجموعات العرقية أو السياسية المختلفة، مما يؤدي إلى زيادة العنف والصراع.. وقد تؤدي هذه الشرارة الأوّلية إلى سلسلة من الإجراءات الانتقامية، مما يزيد من تفاقم الوضع وإطالة أمد الحرب.. ولعل نذر ذلك باتت واضحة في إقليم دارفور المضطرب.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون للتدخلات أو القرارات الخارجية، من قبل القوى الأجنبية، آثار مضاعفة على الصراع في السودان.. فمن المرجح أن يؤثر الدعم السياسي أو العسكري المُقدم لفصائل معينة أو فرض العقوبات على بعض الأطراف على الأرض، بتصعيد النزاع أو الحد منه.. علاوة على ذلك، يمكن أيضًا رؤية التداعيات الإقليمية والدولية للحرب في السودان، من خلال عدسة (تأثير الفراشة).. يمكن أن يمتد عدم الاستقرار والأزمة الإنسانية في السودان ـ كما ذكرنا ـ إلى البلدان المجاورة، مما يؤدي إلى تدفق اللاجئين، وزيادة التوترات الإقليمية، والصراعات المحتملة.

هذا الترابط يسلط الضوء على كيف يمكن للأحداث في السودان أن يكون لها آثار بعيدة المدى على المنطقة الأوسع.

اندلاع الحرب في السودان له تبعات اقتصادية سلبية على اقتصادات المنطقة، ومصر بالذات.. فالسودان يُعد بوابة لنفاذ الصادرات المصرية إلى أسواق دول حوض النيل وشرق إفريقيا، ومع استمرار الحرب وانعدام الأمن، سيتأثر حجم التبادل التجاري بين البلدين، وهو ما ينعكس سلبًا على الاقتصاد المصري الذي يعاني بعض الأزمات في الوقت الراهن.. كما أن السودان يعد موردًا رئيسيًا للمواشي واللحوم الحية، وهي إحدى السلع الاستراتيجية لمصر، حيث تمد السودان مصر بنحو 10% من احتياجاتها من هذه السلع.

وهو ما يزيد الضغط على أسعار اللحوم محليًا، والتي تنعكس على معدلات التضخم المرتفعة.. وتعد السوق السودانية منفذًا هامًا للمصانع الصغرى في مصر، في ظل ما تعانيه السوق المحلية من آثار الركود، وهو ما يضيف مشكلات جديدة للاقتصاد المصري.. باختصار، فإن العجز التجاري الذي سيحدث في مصر، بسبب توقف حركة الاستيراد والتصدير مع وإلى السودان، سيؤثر على الأمن الغذائي في مصر بسبب نقص اللحوم والحبوب، والذي يعاني بالفعل جراء الحرب الروسية في أوكرانيا.

حتى الآن لم تندلع حروب في المنطقة بسبب المياه، لكن هناك سوء استغلال للمياه وخلافات، قد تصل إلى حروب مياه حال عدم الوصول إلى تفاهمات.. فالفقر المائي المدقع قد يدفع إلى هذه الحروب، وقد سبق أن قال الرئيس الراحل، محمد أنور السادات، منذ أكثر من خمسين عامًا، تصريحه الشهير بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل، (إن الشيء الوحيد الذي قد يضطر مصر للحرب في المرحلة القادمة ليس السياسة وإنما المياه).

وتعتبر النزاعات والاضطرابات أحد أبرز أسباب تهديد الأمن المائي للمنطقة العربية، خصوصًا وأن منابع أنهار الدول العربية ليست في دول عربية، وهو ما يؤدي إلى صعوبات في المفاوضات.. لذلك، فإن أطماع إثيوبيا في مياه النيل ـ على سبيل المثال ـ واضحة وتهدد الأمن القومي، ولذلك، إذا ظهرت سلبيات كثيرة على مصر والسودان، قد تندلع حروب المياه، خصوصًا وأن إثيوبيا تنوي إقامة سدود أخرى على النيل الأزرق، الذي يمد نهر النيل بأكثر من 60% من موارده.

الاضطرابات في السودان قد لا يكون لها تأثير مباشر على الأمن المائي لدول حوض النيل، لأن السودان ليست دولة منبع تؤثر على الدول الأخرى، بل دولة ممر ولا تساهم بحصص ملموسة من إجمالي مياه نهر النيل..  لكن ما يجرى بها من أحداث، قد يعطي إثيوبيا الفرصة لانتهاز الحدث وإنجاز المليء الرابع دون مباحثات ولا اتفاق مع السودان ومصر، دون أن تظهر أمام العالم بأنها دولة مُستغِلّه وتملأ السد بقرار انفرادي دون تشاور مع شركاء النهر.

* وبعد..

فإن معطيات وتطورات الحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وميليشيات الدعم السريع في الخامس عشر من إبريل من هذا العام، تُرجح احتمال استمرار هذه الحرب لفترة زمنية طويلة، وقد تتحول إلى حرب شاملة في حال تمددت جغرافيًا، وانخرطت فيها قوى قبلية وعرقية وحركات مسلحة، وتدخلت فيها أطراف خارجية، إقليمية ودولية، حسب أجنداتها ومصالحها.

وبذلك سوف تعيد للأذهان إرث الحروب الداخلية في السودان، حيث استمرت لسنوات وربما لعقود.. وسوف يكون لهذا السيناريو تداعياته الكارثية، ليس على الدولة والمجتمع في السودان فحسب، بل على الصعيد الإقليمي.. فتفكك الدولة السودانية، وغياب السلطة المركزية، وعسكرة المجتمع، وتمدد الفاعلين المسلحين.. كل ذلك وغيره، سوف يلقي بتأثيراته على دول جوار السودان، لاسيما وأن معظمهما يعاني من أوضاع داخلية صعبة، وفي القلب منها مصر.. فهل يمكن تفادي هذا السيناريو الكارثي؟.. هذا هو التحدي الحقيقي.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.