رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحديات الأمن القومي والاقتصاد المصري (1)

قلت في مقال سابق، إن الإقبال الشديد من الشباب على لجان التصويت في الانتخابات الرئاسية، التي أسفرت عن الفوز الساحق للرئيس عبد الفتاح السيسي بفترة رئاسية ثالثة، مرده الحوار الوطني الذي دعى إليه الرئيس، وتميزت نقاشاته بالشفافية والكشف عن كل ما يتعلق بالشان المصري وقضاياه المختلفة، وحجم التحديات، الداخلية والخارجية، التي يجب على الدولة المصرية مواجهتها.. وكان السبب الثاني هو الخوف على مصر وأمنها القومي، وإدراك الغالبية العظمى من الشعب، أننا بصدد أزمات ليس لها، بعد الله، إلا الرئيس السيسي، الذي يؤمن بأن خوض المعارك يكون بالعقل، قبل الخطو على الأرض.. فخلال العشرين عامًا الماضية، حدثت خمس جولات صراع بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة.. وكان دور مصر دائمًا إيجابيًا في احتواء التصعيد وتهدئته وتخفيف آثار هذا الصراع.. إلا أن الحرب في غزة الآن، مع ما بدأ قبلها من أزمات بالإقليم، جاءت لتُفاقم أزمات المصريين، إذ يرى أغلبهم أنها تمثل خطرًا داهمًا على الأمن القومي للبلاد، كما أنها تُعيد في نظر بعضهم (أجواء الحرب المُرعبة)، التي عاشتها مصر قبل خمسة عقود ماضية، وانتهت بإبرام اتفاقية للسلام مع إسرائيل، أفضت إلى تطبيع يوصف بـ (البارد) في العلاقات بين الدولتين.. لقد خلقت حرب غزة بالفعل مناخًا مساعدًا على التمسك بوجود (الرجل القوي) ـ الرئيس السيسي ـ على رأس السلطة، لأنه من يعطي شعورًا بالاطمئنان للمصرين، الذين لا يجدون عنه بديلًا لقيادة المرحلة الحالية.
في أبسط وصف لما يحدث حولنا، يمكننا القول بأن مصر) تسير فوق الأشواك).. أما في نظرتنا الواقعية، فيمكننا الحديث عن (حقول من الألغام) تخوض مصر في رمالها، تبدأ مساحتها الشاسعة من الشمال الشرقي، عند غزة وحرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وتمتد غربًا باتجاه ليبيا وصراع المصالح وهيمنة الميليشيات العسكرية هناك، ثم تتجه ناحية الجنوب عند السودان والحرب الأهلية التي أتت على الأخضر واليابس، ودفعت إلى هجرة السودانيين باتجاه الشمال، عند مصر، عبورًا منها إلى إثيوبيا حيث سد النهضة، وفشل جولة المفاضات الأخيرة، حول ملء وتشغيل السد، وما ينبغي على مصر اتخاذه من خطوات في المستقبل، حفاظًا على حقوقها المائية في نهر النيل.. وتعبر هذه المساحة مياه خليج عدن، باتجاه باب المندب، حيث الحوثيين الذين يهددون التجاة العالمية، عبر البحر الأحمر وقناة السويس.. وبذلك، يكتمل حزام النار حول الدولة المصرية.. وبدءًا من هذا المقال، سنتناول وجه من وجوه التحدي عند الاتجاهات الأربعة التي تحيط بمصر، ومدى تأثير ما يحدث في كل منطقة، على الأمن القومي المصري، وتداعياته على الأوضاع الاقتصادية فيها.. ولنبدأ بالوضع في غزة.
*
تفجَّر البركان في قطاع غزة، في أعقاب هجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة، في السابع من أكتوبر الماضي، فيما سُمي بـ (طوفان الأقصى)، وأدى إلى مقتل ما يزيد على ألف ومائتي إسرائيلي، بين مدني وعسكري، وأسرت قوات حماس عدد تجاوز المائتين، من النوعين معًا، واحتجزتهم رهينة عندها.. هذه العملية ونتائجها، هزت أركان إسرائيل، وأطاحت بصورة الجيش الإسرائيلي، الذي بدا هشًا في أعقاب تلك العملية.. فكان ما حدث قشة استندت إليها إسرائيل، لتحقيق رغبة قديمة، بالاستيلاء على قطاع غزة، وطرد سكانه باتجاه سيناء، في هجرة قسرية، تخلو بعدها الأرض أمام امتداد إسرائيلي جديد، يتاخم الحدود المصرية.
وفي كلمته، خلال مؤتمر صحفي مشترك، عقده يوم الخامس والعشرين من نوفمبر الماضي، مع كل من رئيسي الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، والبلجيكي، ألكسندر دي كرو، جدد الرئيس عبد الفتاح السيسي تأكيده أن مصر (لن تسمح بتهجير الفلسطينيين قسريًا من قطاع غزة، لأن ذلك يعني تصفية القضية الفلسطينية)، لكنه أعلن، في الوقت ذاته، (استعداد مصر للموافقة على وجود دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ووجود قوات دولية، كضمانة لتحقيق الأمن للدولة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي)، لأن تقديرات الأجهزة السيادية، لا سيما المخابرات العامة وهيئة الأمن القومي، تؤكد الأهمية الاستراتيجية لقطاع غزة بالنسبة إلى الأمن القومي المصري، وخصوصًا أمن شبه جزيرة سيناء.. هذا الموقف المصري جعل العلاقات بين مصر وإسرائيل تشهد أجواءً من التوتر الشديد، لم تشهده منذ سنوات، تجلَّى في حديث القاهرة عن المخاطر التي تمس (الأمن القومي المصري)؛ نتيجة التصعيد الجاري في قطاع غزة، وأبرز هذه المخاطر ظهر في اقتراحات إسرائيلية بنقل سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء، والتي سبق وتكررت في سنوات سابقة، وقوبلت برفض مصري صارم.. وقد فضح الرئيس السيسي مخطط إسرائيل لتهجير الفلسطينيين، وجاء رده على ذلك حاسمًا، رادعًا، قويًا وقطع الطريق على كل المحاولات التى تستهدف استدراج الدولة المصرية فى هذه الأزمة أو النيل من سيادتها، التي هي خط أحمر.
على أرض الواقع.. مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، أصبحت مدينة رفح القريبة من الحدود المصرية مركزًا لواحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، بحسب تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال.. في بعض الملاجئ يتشارك ألف شخص في دورة مياه واحدة، حيث يبقى طابور الانتظار لساعات، أما بالنسبة للحصول على فرصة استحمام، فيتشارك بالمكان أكثر من خمسة آلاف شخص، وعليك الانتظار لأيام قبل وصول الدور إليك.. ويحذر مسئولون أمميون من إمكان طرد سكان قطاع غزة الفلسطينيين إلى مصر، مع نزوح غالبية السكان وتوغل القوات الإسرائيلية داخل القطاع.. وحذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، من (تزايد الضغط من أجل التهجير الجماعي إلى مصر(، بينما اتهم المفوض العام لوكالة (أونروا)، فيليب لازاريني، إسرائيل بتمهيد الطريق لطرد سكان قطاع غزة جماعيًا إلى مصر عبر الحدود.. وقالت شيلا بايلان، المحامية الدولية في مجال حقوق الإنسان، والمستشارة السابقة للأمم المتحدة، (إذا تم ذلك في سياق نزاع مسلح، فهو جريمة حرب(.. وأوضحت بايلان أنه لا يحتاج القادة للقيام بإعلان صريح حول ضرورة مغادرة الأشخاص، حتى يتم اعتبار ذلك ترحيلًا قسريًا، مؤكدة (إذا جعلت ظروف العيش مستحيلة أمام الناس، فلن يكون أمامهم خيار آخر).
وهنا، نذكر بحديث الرئيس السيسي، الذي فضح مخطط الصهاينة مع الغرب، وكلماته الواضحة التي لا تحتمل اللبس أو التأويل، وتعني انه حال استمرار الضغط على الشعب الفلسطيني لتهجيره إلى سيناء، سيكون هناك تفويض ومطلب شعبي من قلب ميادين مصر بالرد على الأرض، وستكون مواجهة قوية لا يعلم مداها جيش الاحتلال وداعموه وستشتعل المنطقة بأكملها.. وقد تطرق الرئيس إلى ثلاث موضوعات مهمة، وهى عدم المساس بالسيادة المصرية، وأنها خط أحمر، وضرورة حل الأزمة الفلسطينية عن طريق خيار السلام الاستراتيجي، وهو نهج الدولة المصرية منذ اتفاقية السلام، إضافة إلى رفض مصر القاطع لتصفية القضية الفلسطينية.. وهو ما يؤكد دعم مصر للقضية الفلسطينية بكل الطرق والآليات والتحركات على كافة الأصعدة، وموقف مصر الرافض لأى محاولة تهجير قسرى للحدود المصرية يدل على الثوابت المصرية بالرفض الكامل لتفريغ وإنهاء القضية الفلسيطينية على حساب دول الجوار.
من ناحية أخرى.. كشفت نتائج أولية لدراسة تقييمية صادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) أن التنمية البشرية في مصر ولبنان والأردن من المتوقع أن تتراجع بسبب الحرب على غزة.. لقد أوشك النظام الإنساني في القطاع على الانهيار، مما يعرض حياة أكثر من 2.2 مليون من السكان لخطر داهم.. ومع كل يوم تستمر فيه هذه الحرب، فإن تداعياتها على الدول المجاورة في منطقة الدول العربية ستتسبب في انتكاسات اجتماعية واقتصادية طويلة الأجل.. وحال أكملت الحرب شهرها الثالث الحالي، تشير التقديرات الأولية إلى أن 230 ألف شخص إضافي، سوف يقعون في براثن الفقر في الجارات، مصر والأردن ولبنان، بحلول نهاية عام 2023، بسبب تكلفة الحرب من حيث الفاقد في إجمالي الناتج المحلي، والذي قد يصل إلى حوالي 10.3 مليار دولار، أو 2.3% لهذه البلدان الثلاثة.
تتناول الدراسة، التي صدرت بعنوان (الآثار الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة لأزمة غزة على البلدان المجاورة في منطقة الدول العربية)، العديد من عوامل التأثير الإقليمية المحتملة، بناء على الدروس المستفادة من الصراعات السابقة في المنطقة.. وتشمل تلك الآثار، التغيرات في أسعار النفط، وتدفقات اللاجئين، والضغوط على الدين العام والحيز المالي، والسياحة والتجارة وغيرها.. وتشير الدراسة إلى أن عوامل التأثير تلك يجب مراقبتها بعناية، إذ تظل مكامن للمخاطر وإن لم تظهر آثارها بشكل كامل بعد في الوقت الحالي.. (إذ كانت تلك البلدان تواجه بالفعل تحديات اقتصادية كبيرة بسبب تأثيرات كوفيد ـ 19، ومجموعة الأزمات الاقتصادية العالمية، بما في ذلك تلك التي جلبتها الحرب في أوكرانيا.. فعلينا ألا نغفل أن التأثيرات المترتبة على الحرب في غزة، في التجارة والسياحة وسبل العيش، تُفاقم من مواطن الضعف القائمة، وتقوض المكاسب التي عملت تلك البلدان المجاورة جاهدة لتحقيقها، في رحلتها للتعافي وإعادة اقتصاداتها إلى المسار الصحيح).
ومع أن الصحفي الأمريكي، توماس فريدمان، ـ الكاره بشدة للعرب ومصر بالذات ـ يعتقد أن (الوقت قد حان)، لنهاية الحرب في غزة، لأن إسرائيل لن تحقق أهدافها المرجوة، وعلى الرئيس الأمريكي جو بايدن، اتخاذ (موقف صارم) من دعم بنيامين نتنياهو، وعلى الحكومة الأمريكية أن تخبر إسرائيل بحزم، أن (حربها لإبادة حماس لن تحقق أهدافها).. إن (الإحساس السائد) في إسرائيل هذه الأيام، هو أن (الغالبية العظمى من سكان البلاد اليوم يريدون عودة رهائنهم الذين يزيد عددهم على 120 رهينة)، وهو أولوية فوق أي أهداف حرب أخرى.. إلا أن نتنياهو مازال يواصل التصعيد، ويرى في كل منطقة بغزة مقرًا لقادة حماس، حتى وصل إلى الحديث عن محور فيلادلفيا.. فـ (قضية الرهائن تُفقد الإسرائيليين عقولهم، وتجعل من المستحيل اتخاذ قرار عسكري عقلاني هناك).. ولن تقبل مصر أو تسمح أبدًا بعودة إسرائيل لاحتلال حاجز فيلادلفيا، المحاذي لخط الحدود المصرية ـ الفلسطينية مع قطاع غزة، مهما كانت الذرائع والمبررات.. لأن مصر لن تتنازل أبدًا عن سيادتها الكاملة وسلامة أراضيها، فالحدود بينها وبين فلسطين محددة بدقة ومعترف بها دوليًا، ولا يجوز لإسرائيل أو أي طرف آخر المساس بها أو تجاوزها تحت أي ظرف.
وهنا نعود ثانية إلى ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسي، من أنه (في ظل الظروف التي تمر بها المنطقة، من المهم عندما تمتلك القوة والقدرة، يجب أن تستخدمها بتعقل ورشد وحكمة، فلا تطغى ولا يكون عندك أوهام بقوتك، لكي تدافع عن نفسك وتحمي بلدك، وتتعامل مع الظروف بعقل ورشد وأيضًا بصبر، ولا تدع الغضب والحماس يجعلك تفكر بشكل تتجاوز فيه.. وعلينا الانتباه من أن أوهام القوة قد تدفع إلى اتخاذ قرار أو إجراء غير مدروس، بدعوى أنه كان ناتجًا عن غضب أو حماسة زائدة عن اللازم.. وشدد على أهمية التعامل مع كافة الأزمات بعقل وصبر، من أجل تحقيق كل الأشياء الممكنة، من غير وقوع أي تجاوزات في استخدام القوة أو القدرات).
■■ وبعد..
فإذا كان الحفاظ على الأمن القومي هو دور أصيل ورئيس للقوات المسلحة، وهو حماية الحدود المصرية وتأمين مصالح البلاد، فإن مصر عبر تاريخها القديم والحديث لم تتجاوز حدودها وكان كل أهدافها الحفاظ على أرضها وترابها دون أن تُمس، وهذا يعني أن الجيش المصري بقوته ومكانته وقدرته وكفاءته، هدفه حماية مصر وأمنها القومي دون تجاوز.. وكذلك، فإن حماية الجبهة الداخلية مسئولية شعبية، بتكاتف كل فئات المجتمع خلف القيادة السياسية ومساندة خطواتها التي تبتغي صالح مصر الحضارة والأصالة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.