رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"ود مدنى" فى السودان.. فخ آخر للموت

بينما تتجه الأنظار العالمية نحو غزة وما يدور فيها من مذابح يومية بيد جيش الاحتلال الإسرائيلى ضد شعب فلسطين الأعزل إلا من إيمانه بشرعية قضيته، دارت حرب خاطفة فى السودان سقطت فيها مدينة «ود مدنى» عاصمة ولاية الجزيرة، الأمر الذى نتج عنه فرار مئات الآلاف من المدينة.
قوات الدعم السريع هى الفاعل، بينما الجيش السودانى قد اختفى فى ظروف غامضة، حالة الفزع التى اجتاحت أهالى ولاية الجزيرة فرضت على اللجنة الدولية للصليب الأحمر إصدار بيان عاجل دعت من خلاله أطراف النزاع إلى ضمان حماية جميع المدنيين، وتهيئة ممر آمن للأشخاص الذين يحاولون الوصول إلى بر الأمان.
وهكذا صار المدنيون فى غزة بفلسطين وفى ولاية الجزيرة بالسودان، أهدافًا ثابتة للمتحاربين، المحنة فى حرب السودان أنها احتراب سودانى/ سودانى، كما أن تلك المحنة تتواصل، بينما العالم كله مشغول تمامًا بإسرائيل وتأمين شعبها، وصل هذا الانشغال إلى حد تجاهل الحليف الأمريكى مطالب ابنهم المدلل زلينيسكى وحربه فى أوكرانيا.
لا شك أن السودان ضحية كبرى فى هذا العالم الذى تنهشه الديناصورات الحربية، وهم بلا مواربة، واشنطن وتل أبيب وعواصم غربية أخرى فى أوروبا تلك القارة العجوز التى ما زالت تعيش أوهامها الاستعمارية القديمة.
فى السودان جاءت الجملة البلاغية بديلًا عن التدخل لفض النزاع، حيث قرأنا أن رئيس بعثة اللجنة الدولية فى السودان، بيير دورب، قد صرح قائلًا «نخشى أن تتحول مدينة ود مدنى، التى كانت تعتبر ملاذًا آمنًا للأشخاص الفارين من العنف الشديد فى الخرطوم، إلى فخ آخر للموت»، ونقول من عندنا للمسئول الدولى، ليست «ود مدنى» أو غزة وحدهما أفخاخ الموت، ولكننا نعيش فى منطقة هى فى حد ذاتها فخ كبير لا يلتهم ضحايا الحروب فقط، ولكنه يلتهم المستقبل بشكل عام، لذلك تحولت «ود مدنى» التى كانت ملاذًا آمنًا للعديد من سكان الخرطوم بعد أن دمرت الحرب المناطق المكتظة بالسكان، وانقطاع الخدمات الأساسية عن أحياء بأكملها فى العاصمة إلى فخ آخر للموت.
تقول اللجنة الدولية إنها فى ظل هذه الظروف القاسية وبالاشتراك مع جمعية الهلال الأحمر السودانى، قد يسَّرت خلال الأشهر الثلاثة الماضية إجراء نحو 9500 مكالمة هاتفية للأشخاص الذين فقدوا الاتصال بأحبائهم، ووزعت اللجنة الدولية أيضًا مساعدات مالية على أكثر من 22000 نازح فى القضارف والجزيرة وغرب دارفور.
نتوقف هنا عند رقم الاتصالات الهاتفية، وهو رقم مؤلم يشير إلى مدى الشتات الذى بات عليه المواطن السودانى، فى غزة الأرقام واضحة تتصاعد ويتم توثيقها ويطلع عليها العالم، أما فى السودان فقد ضربت الفوضى فكرة توثيق الجرائم، وبينما حميدتى صاحب الدعم السريع غارق فى طموحاته والجيش السودانى يقف وحده بأدوات قتالية بسيطة يخوض أصعب أنواع الحروب وهى حرب الشوارع، بينما الحال هكذا، نرى ضمير العالم الذى يزعم أنه متقدم قد مات وتم دفنه هناك على أسوار غزة.
إذن ماذا تبقى لنا كعرب مفعول بنا طوال الوقت، هل لدينا أى أداة من شأنها ترتيب هذا الخراب الذى يحاصر دولًا كبيرة مثل مصر، ودول جوار الأزمات مثل الأردن ولبنان، فضلًا عن الدول محور الصراع مثل السودان وفلسطين واليمن وليبيا، هذا زمن عجيب، حيث تتراجع المنافسة بيننا فى التنمية المستقلة المعتمدة على الذات، وتتقدم المنافسة فى عدد الضحايا والمصابين وانقسام الدولة الواحدة إلى دويلات.
المؤتمرات لن تجدى نفعًا طالما غابت الإرادة الحقيقية لبروز القطب العربى موحدًا فى العالم التعيس، لن تجدى نفعًا طالما نحن منغلقون على أنفسنا ندافع عن موضع أقدامنا دون الانتباه إلى الشرر المتطاير شرقًا وغربًا، لذلك الخوف كل الخوف أن تمتد النار ويحترق الجميع لنخرج من التاريخ فى فضيحة معلنة.