رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زلزال الهجرة العكسية ليهود إسرائيل

تعتبر ظاهرة الهجرة العكسية إشكالية وجودية بالنسبة لدولة الاحتلال، وكابوسًا يثير القلق والخوف لدى أركانها، باعتبارها مشروعًا أُنشئ على قاعدة انتزاع اليهود من بلدانهم الأصلية، وإغرائهم بالتوجه إليها، بوصفها أرض السمن والعسل بلد الأمن والأمان، لتحقيق ديموغرافيا يتفوق فيها اليهود على العرب الفلسطينيين، وضمان أكثرية يهودية، أمام أقلية عربية فلسطينية، ومن أجل ذلك تم استخدام القوة بوسائل احتلالية مختلفة لتهجير الفلسطينيين، واستمرت دون توقف من خلال القوة الناعمة أيضًا، وذلك بفرض واقع معاناة يومية وإجراءات تعسفية تراكمية وفرض أنظمة وقوانين إحلالية متنوعة، إلا أن المتغيرات الواقعية فرضت نفسها على مدار سنوات الاحتلال فى جولات المواجهة والاشتباك مع الشعب الفلسطينى لإصراره على الصمود والثبات فى أرضه بالفعل ورد الفعل، ما أحدث أزمة فقدان الشعور بالأمن والأمان لليهود؛ حيث يزيد وينقص ركودًا وصعودًا حسب الظروف والأحداث التى تتسبب بها إسرائيل بعدوانها واعتداءاتها، والتى خلقت أخطر تحدٍّ يواجه القادة الإسرائيليين، إنها ظاهرة الهجرة العكسية من إسرائيل إلى الخارج، ولكن بعد السابع من أكتوبر حدث الزلزال الأعنف فى تصاعد تلك الظاهرة.

وبالرجوع قليلًا، وقبل السابع من أكتوبر يلفت نظرنا أن هجرة اليهود من إسرائيل قد زادت وتيرتها خلال حكم أحزاب اليمين المتطرف، والصهيونية الدينية، وحكومة الائتلاف برئاسة بنيامين نتنياهو، وهى حكومة ذات أكثرية دينية وأغلبية يمينية حريدية فى الكنيست، عملت على تقوية نفوذها وسيطرتها حتى على سلطة القضاء، ما زاد من مخاوف وقلق الإسرائيليين، وظهر جليًا فيما قاله البروفيسور «يوفال هرارى» الذى اعتبر تصاعد ظاهرة الهجرة العكسية من أبرز التحديات والمشاكل التى تواجه إسرائيل منذ قيامها، فى ظل التغييرات المجتمعية والاقتصادية والقضائية الأخيرة، ووفقًا لنتائج استطلاع أجرته الإذاعة الإسرائيلية الرسمية «كان»، فإن أكثر من ٢٥٪ من اليهود البالغين «فوق ١٨ عامًا»، يفكرون بالهجرة من إسرائيل تفكيرًا جدّيًا، فى حين شرع ٦٪ بإجراءات عملية للهجرة.

وقد عادت للواجهة قضية التفكير بالهجرة لأسباب ديموغرافية وأيديولوجية، حيث أظهرت نتائج سابقة لدائرة الإحصاءات المركزية الإسرائيلية عزوف الكثير من اليهود فى أوروبا عن القدوم إلى البلاد، أما «آدم كلير» من «كتلة السلام الآن» فيرى أسباب الهجرة قائلًا: الهجرة العكسية فى السابق كانت لأسباب اجتماعية واقتصادية، وكذلك الظروف المعيشية الصعبة، أما صعود الخط البيانى لهذه الظاهرة فى السنوات الأخيرة فيعود للصراعات الداخلية بين اليهود حول هوية إسرائيل، وكذلك المخاوف والشعور بعدم الأمان مع احتدام الصراع مع الفلسطينيين وانسداد الأفق لأى تسوية سياسية مستقبلية. فيما أظهرت وزارة الاستيعاب الإسرائيلية معطياتها عن الهجرة اليهودية، وفق دراسة أعدّتها، أن ثلث اليهود فى إسرائيل يؤيدون فكرة الهجرة، خصوصًا بعد مواجهات عسكرية كبيرة مع الفلسطينيين سنة ٢٠٢١. وحسب دراسة لمركز «تراث بيغن» أظهرت أن ٥٩٪ من يهود إسرائيل قدموا طلبات للحصول على جنسيات أجنبية، بينما تحث ٧٨٪ من العائلات اليهودية أبناءها على السفر. وتؤكد دراسة صادرة عن مركز «مدى الكرمل» بحيفا حيازة مليونى إسرائيلى جوازات سفر أجنبية، فيما لا يفكر ٤٠٠ ألف آخرون، يحملون جنسيات دول أخرى فى العودة إلى إسرائيل. أما أحدث استطلاعات الرأى التى نشرتها صحيفة «معاريف» الاسرائيلية فتوثق: «تشكيك ٥٦٪ من الإسرائيليين بنجاح جيشهم فى تحقيق الردع التام. وتضاعفت طلبات الحصول على جنسيات أوروبية، حيث سُجِّل أعلى معدل على طلب الجنسية الفرنسية بزيادة نسبتها ١٣٪، وزيادة ٦٨٪ فى طلبات الجنسية للبرتغال، وسجَّلت ألمانيا وبولندا زيادة ١٠٪ طلبات التجنس من الإسرائيليين».

الآن، يبدو أن المشهد يتشكل بصورة مغايرة، حيث يتوجه اليهود للهجرة من «إسرائيل» وليس إليها أكثر من أى وقت مضى، بعد فقدان الثقة بالمنظومة السياسية وسياساتها العسكرية والأمنية، وخسرانها رهانات القوة الرادعة التى على أساسها أُنشئت إسرائيل، حتى أصبحت بيئة طاردة، وليست بيئة جذب لليهود من دول العالم واستقطابهم، وفندت الوقائع التى صنعها نضال وصمود الشعب الفلسطينى كذبة «إسرائيل بلد الأمن والأمان والاستقرار، والازدهار والرفاهية»، فتلك الصورة لم تعد قائمة اليوم، وبات كل فرد فى إسرائيل مدركًا عجز حكومته عن حمايته، بعد فقدانها الكثير من مقومات إقناع الجمهور بأسباب البقاء والاستقرار، فاندفع آلاف اليهود للهجرة من إسرائيل، رغم احتفاء وسائل إعلام إسرائيلية بعودة كثير من جنود وضباط الاحتياط للانضمام إلى الجيش فى حملة الإبادة الدموية على الشعب الفلسطينى وذروتها فى غزة منذ السابع من أكتوبر لغاية اللحظة، بالتوازى مع عمليات دموية فى الضفة الفلسطينية المحتلة أيضًا، فانتشرت وبثت مشاهد وصور الازدحام فى مطار بن جوريون للسفر منذ الأيام الأولى لعملية السابع من أكتوبر، وكذلك مشاهد النزوح الداخلى من المستوطنات حول قطاع غزة، ومن المستوطنات القريبة من الحدود اللبنانية، ووفقًا لتقديرات صحيفة «دى ماركر»: «فإن أكثر من ٢٣٠ ألف يهودى قرروا مغادرة إسرائيل بعد الحرب الأخيرة التى بدأت منذ السابع من أكتوبر الماضى».

وذكرت القناة الـ١٢ الإسرائيلية أن عددًا كبيرًا من الإسرائيليين قدموا طلبات للجوء إلى البرتغال فى أعقاب معركة السابع من أكتوبر مستغلين إعلان البرتغال السماح لهم بالحصول على تأشيرات اللجوء، إذ يكفى توفر جواز سفر إسرائيلى للحصول على الموافقة للإقامة فى البرتغال والعمل بشكل قانونى، إذ سجلت زيادة بنسبة ٦٨٪ فى طلبات الحصول على الجنسية من الإسرائيليين.

ووفقًا لصحيفة «زمان» الإسرئيلية ذكر الكاتب تانى جولدشتاين أن «عدد الإسرائيليين الذين غادروا إسرائيل خلال العطلات وأثناء الحرب ولم يعودوا نحو نصف مليون شخص، وهذا لا يشمل آلاف العمال واللاجئين والدبلوماسيين الذين غادروا البلاد، وأشار إلى أن الحرب قللت الهجرة إلى إسرائيل أقل من النصف فى الوضع الطبيعى، كما ذكر أن حقيقة عودة ما يقرب من ٣٠٠٠٠٠ إسرائيلى إلى إسرائيل منذ اندلاع الحرب عبارة عن كذبة والحقيقة أن هؤلاء عادوا من إجازة العيد، وهم جزء من الآلاف الذين غادروا لقضاء الإجازة ولم يعودوا».

وقد أُنشئت مجموعة باسم «نغادر البلاد معًا» على مواقع التواصل الاجتماعى قبل عام تقريبًا، لكن نشاطها قد تضاعف بسبب الأوضاع الأمنية المتوترة فى أرض فلسطين المحتلة، ودعوتهم إلى ضرورة الهجرة وتشجيع الرحيل من إسرائيل، إذ يؤكد أحد أعضاء المجموعة يائير شاليف بقوله: «لقد كنت أشرح لزوجتى أنه ليس لأطفالنا مستقبل فى إسرائيل منذ عشر سنوات بسبب التركيبة السكانية، وقبل ثلاثة أسابيع أدركت أنه ليس لدينا نحن الآباء مستقبل هنا أيضًا، وفى النهاية سأقنعها»، وامتلأت الصفحة بإعلانات سماسرة العقارات الإسرائيليين فى أوروبا الذين يعرضون شققًا سكنية للبيع والإيجار، وعلى منصة إكس وتحت عنوان «راحلون من البلاد» يتحدث الإسرائيليون عن تدهور الأوضاع الأمنية وعدم ثقتهم بالحكومة والجيش والشرطة، التى دفعتهم للهجرة، وقد وجه الكاتب الإسرائيلى فى صحيفة هآرتس «آرى شبيت» رسالة للمستوطنين يقول فيها: «لا طعم للعيش فى هذه البلاد ولا للكتابة فى هآرتس، يجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى فرانسسكو أو برلين أو باريس، يجب النظر بهدوء ومشاهدة دولة إسرائيل وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة». 

ورغم ذلك يبدو أن تكتمًا مقصودًا عن واقع مغادرة اليهود من «إسرائيل» فى الأيام السابقة، مع محاولة جهات رسمية معنية إخفاء المعلومات عن الجمهور. 

الهجرة اليهودية المعاكسة متوقعة وحتمية، فالمحتلون والمستوطنون لا ينتمون لهذه الأرض «فلسطين»، ومن البديهى أن يبحث اليهودى الفاقد الرفاهية المادية والأمنية عن سبيل للعودة إلى بلده الأصلى، أو السفر بلا عودة نحو أماكن ودول أخرى تحقق لهم مستوى العيش الذى يرغبون به، وما هجرتهم بالآلاف إلا اعتراف عملى بأنهم لم يجدوا الرخاء والأمان والسمن والعسل الذى وعدتهم به المنظمة الصهيونية، لفقدانهم مبدأ الولاء والانتماء، ولإدراكهم عمق انتماء الشعب الفلسطينى لأرض وطنه التاريخى، وأن قوة إسرائيل المسنودة بكل قوة من الدول الاستعمارية لم تفلح بزحزحته عن أرضه، ولن تقوى على دفعه نحو نكبة أخرى بعد استخلاصه العبرة من نكبة سنة ١٩٤٨.

لم، ولن يتوقف نضال الشعب الفلسطينى لانتزاع حقه التاريخى والطبيعى والعودة إلى أرض وطنه فلسطين، فمنذ إدراكه أهداف وأبعاد المشروع الاستعمارى الصهيونى، قاوم مخططات وعمليات التهجير، وبقى صامدًا ثابتًا متجذرًا فى أرضه، واستطاع تفريغ الكذبة الاستعمارية الصهيونية القائلة: «فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» من مضمونها، وفنّد كل الادعاءات التى جندت لها المنظمة الصهيونية كل وسائل التزوير والتحريف وشطب الحقائق على الأرض، عبر عقود من الكفاح والنضال بإرادة وطنية، متبعًا الأساليب المشروعة إنسانيًا وقانونيًا، ورغم المجازر والجرائم الصهيونية بحق الشعب الفلسطينى التى بدأت قبل إنشاء منظومة الاحتلال، فالشعب الفلسطينى استطاع عكس اتجاه وأهداف المخطط بتهجير الشعب الفلسطينى، ونقل الأزمة إلى مركز مجتمع الاحتلال، حتى اختل الشعور بالأمن والأمان لدى الغالبية العظمى من اليهود الذين تم اقتلاعهم من مواطنهم الأصلية وجلبهم إلى فلسطين، واستطاع الشعب الفلسطينى الذى يدافع عن حقه فى الحياة فى أرض وطنه التاريخى دفع دولة الاحتلال نحو واقع هجرة، ليس للشعب الفلسطينى، وإنما هجرة يهودية إسرائيلية عكسية، من «إسرائيل» إلى مواطنهم الأصلية أو إلى بلدان يحملون جنسيتها، ولا يستبعد أن تتسع ظاهرة الهجرة العكسية فى ظل فقدان الأمن والأمان، وتصاعد التوتر الأمنى مع الفلسطينيين، الأمر الذى وضع رءوس حكومات منظومة الاحتلال الإسرائيلى، ورءوس أجهزتها الأمنية، فى أزمة معقدة المخارج.