رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لكل طموح تحديات.. والعبرة بالنتائج

دخل الاقتصاد العالمى فى أزمة تضخم كبرى نتيجة لعدة عوامل، أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية.. سبقتها تداعيات جائحة كورونا، وكذلك أزمة سلاسل الإمداد فى الصين وجنوب شرق آسيا، الأمر الذى أثر على العمليات التصنيعية فى الكثير من دول العالم، فارتفعت أسعار السلع والخدمات عالميًا، نظرًا لارتفاع تكلفة الإنتاج، كما تعرضت أسعار الطاقة «الغاز والبنزين والسولار» وأسعار المنتجات الغذائية لتغيرات هائلة، مما جعل رواتب الناس لا تكفى للحصول على احتياجاتها منها، الأمر الذى فجر احتجاجات ومظاهرات فى الدول الأوروبية، للمطالبة برفع الرواتب والتصدى لارتفاع الأسعار، مثل بريطانيا وفرنسا، كما خلق غضبًا مكتومًا لدى البعض الآخر.
وهذا هو الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، يقول إن بلاده لا بد أن تتحلى بالصبر مع سعيها لخفض التضخم، بالنظر إلى التأثير المتأخر الذى سيظهر لاحقًا لتشديد السياسات النقدية.. ويأمل فى رؤية تراجع «واضح جدًا» فى التضخم، فى غضون اثنتى عشرة شهرًا، نظرًا لأن السياسات الاقتصادية «ستستغرق بعض الوقت» لتحدث أثرًا.. وكان قد ذكر فى تصريحات، إن هناك حاجة إلى «سياسة نقدية متشددة» لإبطاء التضخم، فى تغيير واضح فى موقفه الذى طالما أحبط المستثمرين، من خلال تأييد تكاليف الاقتراض المنخفضة للغاية، وفى وقت فاجأ البنك المركزى التركى المُتعاملين، أواخر نوفمبر الماضى، برفع سعر الفائدة الرئيسى أكثر مما كان متوقعًا، فيما يكثّف معركته ضد التضخم وجهوده لدعم الليرة التى تشهد تراجعًا فى قيمتها.. ورفع البنك سعر الفائدة الرئيسى إلى 40%، فى الشهر السادس من دورة تشديد السياسة النقدية، التى أدت إلى زيادة كُلفة الاقتراض بأكثر من أربع مرات، كما ذكرت وكالة «فرانس برس».
وعلى الرغم من أن الطلب العالمى على النفط لن يصل إلى ذروته قبل عقد على الأقل، إلا أن الإمدادات من خارج أوبك وخصوصًا من الولايات المتحدة تنمو بوتيرة أسرع بكثير من التقديرات، كما تقول شركة الاستشارات «رابيدان»، التى تتخذ من واشنطن مقرًا لها، فى أحدث تقرير لها، «على مدى السنوات القليلة المقبلة، على الأقل، ستكون إدارة الإمدادات الموحدة واليقظة والفعالة باستمرار من قبل «أوبك بلس» ضرورية لمنع انهيار أسعار النفط»، بعد أن انخفضت هذه الأسعار بنسبة 11٪ فى لندن هذا العام، على الرغم من الاستهلاك العالمى القياسى، ويتم تداولها حول خمسة وسبعين دولارًا أمريكيًا للبرميل، فى سياق التدهور الاقتصادى وزيادة العرض فى الولايات المتحدة ودول أخرى. وقد تجاهل التجار تخفيضات الإنتاج الأخيرة من قِبل المملكة العربية السعودية وشركائها فى منظمة البلدان المصدرة للبترول «أوبك».. وعلى المدى الطويل، تبدو التوقعات بالنسبة للنفط هشة، حيث يتوقع خبراء، مثل وكالة الطاقة الدولية، أن تقليل الاستهلاك سيبلغ ذروته هذا العقد، حيث يختار المستهلكون الطاقة منخفضة الكربون والسيارات الكهربائية لتجنب تغير المناخ الكارثي.. وتشكك «رابيدان»، التى توقعت بشكل صحيح انهيار الأسعار خلال حرب الأسعار الأوكرانية الروسية عام، فى أن تحسين كفاءة استهلاك الوقود واعتماد السيارات الكهربائية، سيكون كافيًا للحد من الطلب على النفط قريبًا.
لماذا عكفنا فى السطور السابقة على تناول الموقف العالمى من النفط؟.
رغم كونها أكبر مصدّر للنفط فى العالم، عانت السعودية التضخّم، لكن بدرجة أقلّ بكثير من دول عديدة أخرى، بل إنّ المملكة ربما استفادت من الارتفاع الهائل الذى سجّلته أسعار النفط منذ الحرب الروسية الأوكرانية.. ونود أن نُذَكر بأن لكل تنمية تحدياتها، فى الدول الفقيرة مثلما هى فى الأخرى الغنية، وإن اختلفت التفاصيل.
سايمون هندرسون، زميل بيكر فى معهد واشنطن، ومدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة فى المعهد، ومتخصص فى شئون الطاقة والدول العربية فى الخليج العربى، يقول بأنه، كلما انخفضت أسعار النفط تزايدت التكهنات بشأن التقدم المُحرز فى «رؤية السعودية 2030»، وهى الخطة الطموحة للمملكة لتحديث اقتصادها وتنويعه بعيدًا عن النفط.. ولكن فى غضون ذلك، ومن المفارقات، تحتاج السعودية إلى عائدات النفط أكثر من ذى قبل.. وفى مقال نشرته «بلومبرج»، فى السابع من ديسمبر الحالى، بعنوان «السعودية تُعلن للمرة الأولى، أن بعض مشاريع عام 2030 قد تأخرت»، إذ قال وزير المالية، محمد الجدعان، إن «التأخير، أو بالأحرى، تمديد مهلة بعض المشاريع سيخدم الاقتصاد».. وفى وصفه لكيفية مراجعة جميع الخطط، بناءً على «العوائد الاقتصادية والاجتماعية، وتلك المتعلقة بالتوظيف ونوعية الحياة من بين عوامل أخرى»، أشار إلى أن بعض المشاريع «يتم تسريعها والبعض الآخر التى هى إلى حد كبير مشاريع قيد التنفيذ ولم يتم الإعلان عنها بعد يتم منحها إطارًا زمنيًا أطول للتنفيذ».
وعلى الرغم من أن الجدعان لم يذكر أسعار النفط، فإن هذه الأرقام تشكّل عاملًا حاسمًا فى جميع الموضوعات التى ناقشها.. ويُعتقد أن المملكة تحتاج إلى سعر بترول خام لا يقل عن ثمانين دولارًا للبرميل الواحد، من أجل تمويل «رؤية السعودية 2030».. ويمكن القول إنها تحتاج حاليًا إلى سعر أعلى من ذلك، بعد أن خفَّضت الإنتاج، فى محاولة للحفاظ على ارتفاع الأسعار.. وفى أكتوبر الماضى، قدَّر صندوق النقد الدولى، أن الرياض ستحتاج إلى سعر ستة وثمانين دولارًا للبرميل الواحد لتحقيق التوازن فى ميزانيتها.. وفى الثالث عشر من ديسمبر، أغلق السعر الفورى لخام «برنت» المُتداول على نطاق واسع ما دون خمسة وسبعين دولارًا للبرميل، فى حين كان تداول خام «غرب تكساس»، المُنتج فى الولايات المتحدة أقل من السعر المهم من الناحية المعنوية، البالغ سبعين دولارًا.. وفى اليوم التالى انتعشت الأسعار مع استيعاب السوق للأخبار المتعلقة بأسعار الفائدة.
ويتعزز اعتماد السعودية على الأسعار، من خلال الندرة النسبية للاستثمار الأجنبى المباشر فيها، حيث يبدو أن العديد من الشركاء الاقتصاديين المحتملين، ينتظرون تحسين مقومات «رؤية السعودية»، قبل تخصيص الأموال لمشاريع جديدة فى المملكة.. وكما قال الجدعان، «هناك استراتيجيات تم تأجيلها واستراتيجيات سيتم تمويلها بعد عام 2030»، مشيرًا إلى واقع أكّده بالفعل المستثمرون الأجانب على نطاق واسع، بعد أن أعلن الأمير محمد بن سلمان، ولى العهد السعودى، عام 2016، أن هدف 2030، هدف طموح، وتوقع الكثير من المراقبين أنه هدف مُفرط فى التفاؤل منذ البداية، وأن الرياض ستحتاج حتى عام 2035 أو 2040، قبل أن تتمكن بالفعل من تنويع مصادر اقتصادها، الذى يعتمد على النفط.. ولم يعلّق الأمير محمد بن سلمان علنًا بعدُ على إعادة الجدولة، على الرغم من أن الجدعان أكد أن ولى العهد يرأس اللجنة المسئولة عن مراجعة الجداول الزمنية للمشروع.. ويبدو أن ولى العهد وضع هذه المسألة على رأس جدول الأعمال، خلال اجتماعه، فى السادس من ديسمبر الحالى، مع الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، خلال زيارته الأخيرة إلى الرياض، فى إطار تركيزه العام على إبقاء أسعار النفط مرتفعة، وهذا ليس مفاجئًا، بالنظر إلى أن روسيا والسعودية هما أكبر منتجين فى منظمة «أوبك بلس».
وعلى الرغم من التأخير، يبدو أن الرياض متمسكة بمطلبها، بأن تقوم الشركات الأجنبية بنقل مقارها الإقليمية إلى السعودية، بحلول الأول من يناير القادم، إذا أرادت تقديم عطاءات على العقود الحكومية.. فالكثير من الشركات العاملة فى المملكة تتخذ من الإمارات العربية المتحدة مقرًا لها منذ فترة طويلة، حيث أصبحت دبى وجهة مفضلة للمديرين التنفيذيين المغتربين الذين يتنقلون من الوجهات السعودية وإليها أسبوعيًا.. وبرز مؤشر آخر حول الذهنية الاقتصادية للرياض، من خلال الميزانية التى أعلنتها فى وقت سابق من الشهر الماضى، والتى توقعت عجزًا متواضعًا نسبيًا قدره 21 مليار دولار.. وأظهر الرقم المتوقع للإيرادات الحكومية انخفاضًا طفيفًا فقط، على الرغم من تخفيضات إنتاج النفط وانخفاض الأسعار، مما يشير إلى أن الثقة الإدارية السعودية تواجه تحديًا بالفعل.
إذًا، أنت لست وحدك.. فالكل فى الهَم شرقٌ.. لكن يبقى فى الميدان، من كان قادرًا على البقاء، ويمسك بيمينه سيف تحدى التحدي.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين