رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليس إلا مصر.. لخروج إسرائيل من مستنقع غزة

طلبت إسرائيل وساطة من القاهرة والدوحة لإبرام صفقة تبادل أسرى ومحتجزين في إطار هدنة إنسانية جديدة في غزة.. وباتت آمال الهدنة محط تداول في الأوساط الإسرائيلية، لكنها لم تنضج بعد، وبالتالي لم تتضح معالمها.. وقد انخرط الجانب المصري بالفعل في وساطة جديدة مع الجانبين القطري والأمريكي لتنفيذ صفقة تبادل أسرى جديدة قريبًا بين حماس وإسرائيل.. وهناك لقاءات مرتقبة بين إسرائيل ومصر وقطر برعاية أمريكية في هذا الإطار.
وقد شهدت الفترة الماضية هدنة إنسانية بين حماس وإسرائيل استمرت أسبوعًا، وانتهت في الأول من ديسمبر بإطلاق سراح مائة وخمسة رهائن من غزة، بينهم ثمانون إسرائيليًا، مقابل إطلاق إسرائيل سراح مائتين وأربعين أسيرًا فلسطينيًا، لكن جهود تمديد الهدنة تعثرت.. وتقول إسرائيل إن ما لا يقل عن مائة وسبعة وثلاثين محتجزًا يُعتقد أنهم لا يزالون لدى حماس.
وهنا نتساءل: ما حظوظ الهدنة في ظل الانتقاد الأمريكي لحكومة نتنياهو؟.
حملت الانتقادات التي وجهها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لبنيامين نتنياهو وحكومته عدة جوانب.. وجود ارتباك إسرائيلي تجاه التطورات الحاصلة في حرب غزة.. عجز إسرائيل عن تحقيق أهدافها الرئيسية من الحرب.. وجود نوع من الإحراج لواشنطن تجاه حلفائها في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم عمومًا.. احتمال فرض الاتحاد الأوروبي بعض العقوبات على بعض المستوطنين، بسبب سلوكهم العدائي تجاه الفلسطينيين.. ترى الولايات المتحدة أن مستقبل نتنياهو مُظلم، باعتباره أحد الأسباب الرئيسية لما آلت إليه الأوضاع في قطاع غزة، بسبب إصراره منذ توليه الحكم، على تصفية القضية الفلسطينية وعرقلة مسألة حل الدولتين، كما عجزت الولايات المتحدة عن تحويل ضغوطها اللفظية إلى إجراءات فعلية ضد إسرائيل، مما أوجد انقسامًا داخل البيت الأبيض والكونجرس بشأن الحرب.
يعتبر كبير الباحثين في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، يوحنان تسوريف، انتقادات بايدن لنتنياهو مقبولة، لكن لا تؤثر سلبًا على العلاقة بينهما، خصوصًا مع استمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل.. وبالتالي، فقد أصبحت هناك مطالب في الداخل الإسرائيلي تدعو إلى إجراء انتخابات لتغيير الحكومة الحالية، إلى جانب رفض ائتلاف الحكومة الحالي وتخوفه من احتمالية التفكك نتيجة تقديم مقترح الانتخابات إلى الكنيست، في وقت لم يتم إلى اليوم تحقيق أي هدف من الأهداف التي قامت على أساسها الحرب.
القاهرة، من جانبها، تواصل اتصالاتها وتحركاتها المكثفة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، والسماح بإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية العاجلة، والوقود اللازم لتشغيل المستشفيات والمرافق الحكومية الهامة داخل غزة.. هذه الجهود المصرية تتم بالتوازي مع تحركات سياسية ودبلوماسية، ترى أن السبيل الوحيد لحل هذا الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين لن يتم حله بالقوة، بل على العكس تمامًا، سيكون السبيل الوحيد هو العودة إلى طاولة المفاوضات، لمناقشة سبل تفعيل حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967.
ويأتي السؤال المهم: لماذا تعتبر مصر مفتاحًا لمفاوضات الرهائن مقابل وقف إطلاق النار، الذي قد يكون الاتفاق حوله قريبًا؟.
القاهرة لاعب محوري في الجهود الجارية للتوصل إلى اتفاق، كقوة إقليمية وأول دولة عربية تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في أواخر سبعينيات القرن العشرين.. وتتمتع مصر أيضًا بعلاقات تاريخية قوية مع الولايات المتحدة، ويعني موقعها أن مصر توسطت منذ فترة طويلة بين إسرائيل والجماعات الفلسطينية المسلحة في نوبات العنف السابقة، وآخرها في حرب 2021.. ولا يوجد نقص في الأطراف المشاركة في المفاوضات، من أجل إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حماس، بما في ذلك أكثر من اثنتي عشرة دولة، كان مواطنوها من بين الأسرى.. وحتى الآن، ولتتبع احتمال التوصل إلى اتفاق وشيك، راقب مصر.. فالقاهرة تكثف جهودها للتوسط في اتفاق بين إسرائيل وحماس، يشمل وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم الحركة، بالإضافة إلى إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.. وقد حققت الجولة الأخيرة من المحادثات في القاهرة تقدمًا بشأن الشروط الدقيقة للاتفاق، مع (مزيد من المرونة) التي تبديها الأطراف الآن.
وقد دعا وزير الخارجية، سامح شكري، مرة أخرى إلى وقف إطلاق النار، من أجل تدفق المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة.. وقال في مؤتمر صحفي مشترك بالقاهرة يوم الأربعاء الماضي، مع وزير الخارجية الأيرلندي، مايكل مارتن: "الوضع الإنساني في غزة لا يطاق، ومن العناصر الرئيسية في مواجهة ذلك ضرورة وقف إطلاق النار والسماح بالمساعدات".. والتقى رونين بار، رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، يوم الثلاثاء الماضي بالقاهرة أيضًا، مع كبار المسئولين المصريين لإجراء محادثات، ركزت على وقف إطلاق النار الإنساني، وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين.. وبعد زيارة بار إلى القاهرة، نقلت هيئة البث العامة الإسرائيلية (كان)، عن مصدر، قالت إنه شارك في المحادثات، أن الأطراف المتحاربة كانت (الأقرب) من أي وقت، للتوصل إلى اتفاق.. ويأتي هذا التقدم، بعد أقل من أسبوع من لقاء عباس كامل، رئيس جهاز المخابرات المصرية، في القاهرة مع وفد من حماس، برئاسة زعيم الحركة في قطر إسماعيل هنية.
جهود مصر للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، تشير الجولات الأخيرة من المحادثات فيها إلى ظهور (مرونة للسماح بحلول جزئية)، مع أن إسرائيل كانت تصر على (استكمال هدفها العسكري) المتمثل في تدمير قدرات حماس العسكرية، والذي يعيق الجهود الرامية إلى التوصل إلى تسوية شاملة.. فما الذي حدث؟.
(الأحياء ضيقة والجنود تُنصب لهم الكمائن)، هكذا يصف الإعلام الإسرائيلي الحال في قطاع غزة، وما يشهده الجيش الإسرائيلي هناك، الذي تكبد مؤخرًا خسائر في الجنود والعتاد، هي الأكبر منذ الاجتياح البري.. وتبدو وسائل الإعلام الإسرائيلية، في الأيام الأخيرة أنها تمهّد لانسحاب القوات البرية من القطاع، والاكتفاء بالقصف الجوي، بعد فشل التدخّل البري في تحقيق أهدافه المُعلنة، خصوصًا تحرير كل الرهائن وتدمير قدرات حركة حماس.. يتزامَن هذا، مع إبداء تل أبيب قبولًا لبدء جولة جديدة من المفاوضات مع حماس، بشأن صفقة جديدة لتبادل الأسرى.
وفي تقرير نشرته صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية، قالت إن حماس أنشأت مئات الآلاف من المنشآت العسكرية الخاصة بها، بينما يختبئ عشرات الآلاف من عناصرها في الأنفاق؛ وهو ما عرقل الجيش الإسرائيلي في تنفيذ أهدافه داخل القطاع.. وجاء في التقرير أن العقبات التي واجهها الجنود الإسرائيليون على الأرض وحتى من الجو، هي: اختباء عناصر حماس في الأنفاق مما لا يترك للجيش الإسرائيلي أي خيار سوى مواجهتهم في قتالٍ من مسافة قريبة، وفشلت المركبات المدرعة والمدفعية في اختراق الشوارع الضيقة.. يُدرك الجيش الإسرائيلي أنه ليست لديه القدرة على القضاء على حماس والبنية التحتية من الجو؛ بسبب الأعداد الكبيرة داخل القطاع، حتى القتال من المسافة القريبة يُسقط ضحايا.. لا يستطيع الجيش استهداف جميع المنشآت والقواعد فوق وتحت الأرض في غزة.. يستخدم قوة نيران ثقيلة، لكن القيام بذلك ليس بالأمر السهل دائمًا في الأحياء المكتظة بالسكان.. الغارات الجوية ليست إجراءً فعالًا ضد المنازل التي توجد بها أسلحة، قد ينهار المنزل أو يتضرّر، وقد تنفجر بعض العبوات، لكن من المرجّح أن يظل الجزء الأكبر من الذخيرة صالحًا للاستخدام وسط الركام.. ولا يُستبعد، والحال هكذا، أن تمهّد إسرائيل لانسحابها بريًا بالفعل، إلا أنها تسعى أولًا إلى حصد أي مكسب (لتخفيف آثار المحاكمة التي قد تنتظر نتنياهو)، مثل تحرير الرهائن أو اغتيال يحيى السنوار، قائد حماس في غزة.
منذ اليوم الأول لعمليتها العسكرية في غزة، أكد المختصون أن إسرائيل لن تنجح داخل القطاع؛ لأن حماس التي تسيطر عليه منذ عشرين عامًا تقريبًا، استطاعت تجهيزه ليكون ثُكنة عسكرية كبيرة ومُحصّنة ضد أي عدوان بري.. كذلك استطاعت حماس تكوين ترسانة أسلحة ومعدات، كأنها تجهز لهذه الحرب منذ عشرين عامًا؛ ولذا يُتوقّع أن عدد قتلى جنود إسرائيل يفوق الُمعلَن بكثير.. ولهذا فلم ينجح التوغّل البري في تحقيق أهدافه، فلجأ الجيش الإسرائيلي إلى توزيع منشورات في قطاع غزة، تَعرض مكافأة مالية كبيرة قدرها أربعمائة ألف دولار لمن يُدلي بمعلومات عن مكان يحيى السنوار، ومائتان وخمسون ألفًا لمن يعرض معلومات عن شقيقه محمد السنوار، القيادي في حماس، ومائة ألف للإدلاء بمعلومات عن قائد الجناح المسلح للحركة محمد ضيف.. لقد تمخض الجبل فأنجب فأرًا.. ولم يبق إلا مصر، ملاذًا للحل المأمول من إسرائيل، وهو إطلاق سراح المحتجزين لدى حماس والدخول في هدنة جديدة، قد تتطور إلى وقف تام لإطلاق النار.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.