رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بين الخوف على مصر وحوار مستقبلها

انتهى ماراثون انتخابات الرئاسة المصرية، أمس، بعد ثلاثة أيام من العُرس الديمقراطى التى شهدته البلاد، من أقصاها إلى أدناها، وشارك فيه كل فئات المجتمع، على تنوعها البشرى والثقافى والاجتماعى والمهنى.. شباب ونساء، كانوا الغالبية العظمى، ورجال وشيوخ، قرروا المشاركة فى رسم مستقبل بلادهم، يحدوهم الأمل، أن رئيس مصر سيستكمل ما بدأناه من إصلاح اقتصادى، ومسيرة بناء، قطعت شوطًا طويلًا من المشروعات القومية العملاقة، الكفيلة بانتقال الدولة المصرية إلى آفاق المستقبل.. وقد جذب انتباهى، فى مداخلات (الكونفرانس)، بين رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات ورؤساء اللجان العامة فى المحافظات، أن معظم السادة القضاة المشرفين على هذه اللجان أكدوا أن المشكلة الوحيدة التى صادفتهم خلال أيام الاقتراع الثلاثة، هو الكثافة العالية للإقبال على اللجان، من كل فئات المجتمع، بشكل لم يتوقعوه، ومع ذلك جرت عمليات الاقتراع بسهولة وسلاسة، لم يعكر صفوها شىء.
وهنا لا بد أن نتوقف عند ملاحظة السادة القضاة، بشأن الكثافة العالية للإقبال على لجان الانتخابات، بشكل غير مسبوق، وغير متوقع، فى خضم أزمة اقتصادية طاحنة وارتفاع للأسعار، وتضخم تأثر بموجة الغلاء العالمى، حتى أثقل كاهل المواطن البسيط.. فما الذى دفع هؤلاء الناخبين، وأنساهم معاناتهم اليومية، وجاءوا جماعات وزُرافات للإدلاء بأصواتهم؟
إنه الحوار والخوف.
فأما الحوار الذى أشرت إليه، فهو (الحوار الوطنى)، الذى دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى قبل أكثر من عام، وشاركت فيه أحزاب سياسية وشخصيات معارضة، كانت قد توارت عن المشهد السياسى المصرى طيلة السنوات الماضية.. حوار، انطلقت جلساته فى ظل (قلق مجتمعى حول مستقبل الاقتصاد، وخصوصًا مع ارتفاع معدلات التضخم وتسببه فى أعباء معيشية متصاعدة).. وكان توضيح الحقائق بشفافية كاملة، وتعزيز التواصل بين مؤسسات الدولة والمواطنين (يمثل ضرورة لاحتواء قلق الرأى العام، ودفعه لتقبل الإجراءات الحكومية لمعالجة الأزمات).. وشهدت الجلسة الافتتاحية لجلسات هذا الحوار، حضورًا حكوميًا ضم رئيس الوزراء، مصطفى مدبولى، وعددًا من الوزراء والسفراء ورؤساء الأحزاب السياسية، وأعضاء مجلسى النواب والشيوخ، والاتحادات والنقابات العامة والمجتمع المدنى وصحفيين وإعلاميين، وعددًا من الشخصيات العامة.. وأكد الرئيس السيسى، خلال كلمة مسجلة بُثت فى بداية الجلسة، أن (الحوار الوطنى يرسم ملامح الجمهورية الجديدة)، مجددًا القول إن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للوطن قضية.. و(إن أحلامنا وآمالنا تفرض علينا أن نتوافق).
كان الحوار الوطنى فرصة لتوضيح جميع الحقائق للرأى العام، فى وقت كان يطرح فيه المصريون الكثير من التساؤلات ولا يتلقون إجابات، أو يحصلون فى أحيان أخرى على معلومات منقوصة وغير دقيقة.. لكن جلسات الحوار جرت بمنتهى الوضوح والشفافية، وأتاحت الفرصة لكل الأفكار والآراء أن تُطرح، ولجميع التيارات أن تُقدم رؤيتها، ما أسهم فى تهدئة الرأى العام، بعد توضيح الحقائق والتعرف على جميع أبعاد الموقف الراهن، وذلك وسيلة فعّالة للمشاركة المجتمعية فى صناعة القرار وتقبله والتجاوب معه.. كما أن تحسين قنوات التواصل بين مؤسسات الدولة وجميع قطاعات المواطنين (يمثل وسيلة لتحقيق الصبر المجتمعى، على الإجراءات الجارى تطبيقها لمواجهة الأزمات).. نعم، المجتمع المصرى يواجه الكثير من التحديات التى تشغل المواطنين، لكن حالة الحوار وفرت إطارًا لتفهم المواطنين طبيعة وحدود تلك الأزمات، والإجراءات المتخَذة للتعامل معها.. وجرت حالة الحوار فى اتجاهين، من الدولة إلى المواطن عبر توضيح الحقائق، ومن المواطنين إلى الدولة عبر تقييم مدى كفاءة السياسات والإجراءات المتَّبَعة، ومدى رضا الرأى العام عنها.. إطلاع المواطنين على كل مجريات النقاش، أكدت للجميع أنه (لا يوجد ما تتم مناقشته فى غرف مغلقة)، فساهمت ثقة المواطن وإدراكه لتجاوب الدولة مع ما يطرحه من مشكلات، فى تحسين المزاج الشعبى، وجعلت المواطنين أكثر تقبلًا وتفاعلًا مع الشأن العام، وهو (ضرورة لبناء أى مجتمع ديمقراطى).
وكان الرئيس السيسى قد دعا خلال حفل الإفطار الرمضانى فى السادس والعشرين من أبريل، العام الماضى، إلى إجراء (حوار وطنى) حول مختلف القضايا، وعقد مجلس أمناء الحوار الوطنى، الذى ضم شخصيات عامة وحزبية وأكاديميين وعددًا من الشخصيات المحسوبة على قوى المعارضة، اجتماعات على مدار عام كامل للاتفاق على محاور الحوار، التى خلصت إلى ثلاثة محاور رئيسية؛ سياسية ومجتمعية واقتصادية، وتولى إدارة المناقشات فى كل محور مجموعة من اللجان الفرعية، تتناول 113 موضوعًا مطروحًا للنقاش.. وما أن خرج الحوار بمخرجاته، حتى استجاب لها الرئيس السيسى بسرعة، تعكس وفاءه بتعهداته السابقة أمام القوى الوطنية والسياسية، بأنه سيستجيب لكل مخرجات الحوار الوطنى فى ضوء صلاحياته الدستورية، سواء من خلال إصدار قرارات تنفيذية، أو بالتوجيه بتقديم تعديلات تشريعية وإصدارها من خلال مجلس النواب، ما أعطى انطباعًا للمواطنين، على تنوعهم، بأننا على الطريق الصحيح، لتحقيق المستهدف سياسيًا واقتصاديًا واحتماعيًا، ومجابهة التحديات الداخليه والإقليمية الدولية.. هذه واحدة.
أما الثانية، وهى الخوف الذى دفع الناخبين للمشاركة بكثافة غير مسبوقة فى الانتخابات الرئاسية، فأعنى بها حرب غزة، والتهديدات التى باتت تحيط بالدولة المصرية من كل جانب.
جرت الانتخابات الرئاسية هذه المرة، فى ظل متغيرات دولية وإقليمية واقتصادية، تأتى فى مقدمتها أزمة اقتصادية طاحنة، فاقمها تراجع قيمة الجُنيه المصرى مُقابل العملات الأجنبية، وارتفاع تكاليف المعيشة.. وجاءت حرب غزة لتُفاقم أزمات المصريين، إذ يرى أغلبهم أنها تمثل خطرًا داهمًا على الأمن القومى للبلاد، كما أنها تُعيد فى نظر بعضهم (أجواء الحرب المُرعبة)، التى عاشتها مصر قبل خمسة عقود ماضية، وانتهت بإبرام اتفاقية للسلام مع إسرائيل، أفضت إلى تطبيع يوصف بـ(البارد) فى العلاقات بين الدولتين.. لقد خلقت حرب غزة بالفعل مناخًا مساعدًا على التمسك بوجود (الرجل القوى) الرئيس السيسى على رأس السلطة، لأنه من يعطى شعورًا بالاطمئنان للمصرين، الذين لا يجدون عنه بديلًا لقيادة المرحلة الحالية.. إن سماح القيادة السياسية بتنظيم مظاهرات شعبية للتعبير عن رفض ما يحدث فى الأراضى الفلسطينية، جعلها تشهد تأييدًا واضحًا لطريقة تعامله مع الأزمة، دون رفع أى شعارات سياسية من المعارضة.
وعندما قرر بعض المرشحين تقليص نفقات حملاتهم الدعائية، بل وقفها لعدة أيام بسبب حرب غزة، فإن توجيهًا واضحًا صدر من المرشح عبدالفتاح السيسى لتخفيض تكاليف الحملات الدعائية، ودعوة الأحزاب والجهات المؤيدة للتبرع إلى حسابات المؤسسات والجمعيات الأهلية لدعم أهالى قطاع غزة، فإن التبرع بجزء من أموال الحملات الانتخابية، يُعد جانبًا من المسئولية الاجتماعية للمرشحين، ويعكس استجابة للمزاج العام.. كما نظمت حملة السيسى والجهات الداعمة، لها حملة إغاثة إنسانية وحملة أخرى للتبرع بالدم، ونظمت زيارات إلى معبر رفح البرى وعقدت مؤتمرًا صحفيًا أمام بوابة المعبر للتأكيد على تأييد الحقوق الفلسطينية، ورفض مصر القاطع تصفية القضية الفلسطينية عبر التهجير القصرى لأهالى قطاع غزة باتجاه سيناء.
■■ وبعد..
فإن أخطر ما يواجه الرئيس القادم، هو الضغط الذى تمارسه القوات الإسرائيلية على الفلسطينيين، بجعلها الحياة مستحيلة داخل قطاع غزة.. وفى ظل تحذيرات من أن ذلك قد يدفع الفلسطينيين إلى اختراق حدود مصر، لكن مراقبين كثرًا لا يرجحون هذه الفرضية، لا سيما وأن الفلسطينيين قد أبدوا رفضًا شديدًا لهذه الخطط، مؤكدين عدم قبولهم خطط التهجير وتصفية القضية.. وقبل كل ذلك وبعده، الخط الأحمر الذى رسمه الرئيس السيسى، لمنع حدوث ذلك.. وما زلنا نذكر خطه الأحمر، بين سرت والجفرة فى ليبيا، الذى أوقف تغول الميليشيات المسلحة هناك، بزعامة تركيا آنذاك واجترائها على الاقتراب منه، ومن ثم تهديد حدودنا الغربية، (إننا عاقدون العزم على المضى قدمًا، فى مواجهة هذه الأزمة، متمسكين بحقوق الشعب الفلسطينى التاريخية، وقابضين على أمننا القومى المقدس، نبذل من أجل ذلك الجهد والدم، متحلين بقوة الحكمة وحكمة القوة، نبحث عن الإنسانية المفقودة بين أطلال صراعات صفرية، تشعلها أصوات متطرفة، تناست أن اسم الله هو العدل، يجمع البشر من كل لون ودين وجنس، وأن السلام هو خيار الإنسانية، ولو ظن أعداؤها غير ذلك).
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.