الخروج الكبير
انتهت بالأمس إجراءات انتخاب رئيس جمهورية مصر العربية لفترة انتخابية جديدة تنتهى فى ٢٠٣٠، وبغض النظر عن أى انحياز عاطفى تجاه مرشح من المرشحين للمنصب الكبير فقد اتسمت هذه الانتخابات بعدد من السمات الواضحة، لعل أهمها الاحترافية الشديدة فى إدارة العملية الانتخابية من قبل الهيئة الوطنية للانتخابات بدءًا من سهولة معرفة الناخب بمقر لجنته الانتخابية، إلى جاهزية مقار الانتخاب، إلى سهولة عملية التصويت ويسرها، مرورًا ببراعة التنويهات الإعلامية لتشجيع المواطنين على أداء الحق الانتخابى، والتى تكفلت الهيئة بإنتاجها وإذاعتها على عدد من القنوات الشهيرة والتى لعبت دورها من وجهة نظرى فى زيادة نسبة المشاركة الانتخابية هذه المرة بشكل جعل البعض يتنبأ بأن تكون هذه الانتخابات صاحبة واحدة من أعلى نسب المشاركة فى تاريخ الانتخابات المصرية. انسحبت الاحترافية الملحوظة فى الأداء أيضًا على تنظيم حملات المرشحين الأربعة وانضباط غرف العمليات التى تدير نشاط كل مرشح، والتوفيق الذى لازم أغلب المتحدثين باسم المرشحين فى إيصال رسالتهم بالتساوى عبر القنوات والبرامج التليفزيونية المختلفة، والتزام الجميع بلغة موضوعية تقول كل ما تريد دون الانخراط فى شخصنة الأمور أو الادعاء بلا دليل. نسب المشاركة الكبيرة هى أيضًا دليل عمق الميراث الحضارى للشعب المصرى الذى يمكن وصفه بأنه «يعرف الكفت»، و«الكفت» هو النقوش الدقيقة على سطح الأوانى النحاسية القديمة، والمعنى أن هذا الشعب يعرف متى يصمت ومتى يتكلم، ومتى يخرج ومتى يلزم منزله، وقد ساهم الظرف السياسى بكل تأكيد فى احتشاد المصريين جميعًا لإيصال رسالة بوحدتهم واتحادهم فى مواجهة تحديات الأمن القومى، ولكن الحقيقة أن هذا هو ليس السبب الوحيد للخروج الكبير للمصريين فى انتخابات الرئاسة، ولكن السبب الأدق هو الإعجاب بموقف الدولة المصرية منذ بدء الأزمة، حيث عبّر الموقف الرسمى عن الإرادة الشعبية منذ أول أيام الأزمة، سواء فى رفض مخططات التهجير بكل قوة، أو التصميم على دخول المساعدات رغم ارتعاد إسرائيل من أن يكون فى المساعدات المصرية ما يساعد الغزاويين على مزيد من المقاومة، ورفض خروج حاملى الجنسيات الأجنبية ما لم تدخل المساعدات، وتقديم آلاف الأطنان من المساعدات بنسبة ٧٠٪، من إجمالى المساعدات التى قدمها العالم، ثم كان أكثر ما أعجب المصريين هو تلك اللغة الخشنة التى حذرت بها القوات المسلحة ومؤسسات الدولة المصرية أى طرف يفكر فى المساس بالسيادة المصرية، والمعنى أن الإحساس بالخطر لم يكن الدافع الوحيد للخروج ولكن إعجاب المصريين بطريقة الدولة فى إدارة الموقف والتصدى للخطر أيضًا كان أحد عوامل ارتفاع نسب التصويت والمشاركة، يضاف إلى هذه الأسباب أن عشرة أعوام من الانخراط فى العمل على تنمية الحس الجمعى المصرى، والتواصل الفعال مع الشارع الذى ظل نهبًا للإرهابيين طوال أربعين عامًا سبقت ثورة يونيو ٢٠١٣، وسياسات مثل إنصاف الريف وتمكين الشباب والمرأة وتنمية العمل الاجتماعى على أساس وطنى، كل هذه البذور قد آتت ثمرها بعد عشر سنوات من العمل الجاد عليها، فرأينا ملايين المستفيدين من «حياة كريمة» فى طابور الانتخاب، ورأينا جهدًا كبيرًا للشباب والمرأة فى المشاركة التنظيم. أحد أسباب مشهد الخروج الكبير أيضًا هو إدراك المواطن المصرى أن الاقتصاد هو تابع للسياسة وأن الأداء السياسى القوى للدولة فى الأزمة الأخيرة سيتحول إلى مكاسب اقتصادية نحصل عليها من العالم الذى لا يتحدث سوى لغة القوة، والذى نعرف أنه سيضطر للتعامل مع حقائق الواقع التى فرضها المصريون منذ ٣٠ يونيو، وأكدتها جموعهم خلال الأيام الثلاثة الماضية، وبالتالى فلا مجال لمزيد من الضغوط الاقتصادية التى سبقت الانتخابات الرئاسية بعام لأنها ببساطة أدت لنتيجة عكسية، وقد رأى العالم ذلك واختبره بنفسه فى مشهد الانتخابات.. وبالتالى يمكن القول إننا على أبواب مرحلة جديدة تبدأ فى ١٨ ديسمبر الحالى مع إعلان نتائج الانتخابات، وهى مرحلة لا تخلو من تحديات وصعاب، لكنها أيضًا تحمل بشائر الأمل والطموح فى غدٍ أفضل، وهو ما تستحقه مصر وشعبها العظيم بكل تأكيد.. والله على كل شىء قدير