رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالناصر فى الفالوجة

مع الأحداث المتصاعدة فى غزة، عُدت إلى أوراقى، وإلى الملفات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، لا سيما المرتبط منها بموقف مصر من هذه القضية. وربما لا يعرف البعض أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قد شارك فى شبابه، كأحد ضباط الجيش المصرى، فى حرب ١٩٤٨. وهناك كانت الواقعة الشهيرة «حصار الفالوجة»؛ حيث ضرب الجيش الإسرائيلى حصاره على عبدالناصر وجنوده فى منطقة الفالوجة شمال غزة، واستمر ثبات الجيش المصرى تحت الحصار، حتى تمت الهدنة.

يحكى عبدالناصر عن هذا الحصار ومشاعره وتوجهاته آنذاك، لأول مرة، فى كتابه الشهير «فلسفة الثورة»، هذا الكتاب الذى صدر فى أعقاب ثورة ٢٣ يوليو. فى هذا الكتاب الصغير، المشحون بالذكريات والعواطف، يوضح عبدالناصر فى صراحة تامة مأساة دفع الجيش المصرى فى حرب فلسطين، هذا الجيش الذى كان قد أُعيد بناؤه بعد معاهدة ١٩٣٦، وكان لا يزال فى طور التكوين، يعانى من نقص السلاح، وبالتالى ضعف التدريب، نتيجة أن بريطانيا كانت هى المورد الأساسى للتسليح، ولم تكن بريطانيا تسعى إلى بناء جيش مصرى قوى، لأنها تدرك أن أول مطالب هذا الجيش ستكون الاستقلال التام والجلاء. وعلى هذا دخل الجيش المصرى الحرب، ولم يكن فى حقيقة الأمر مستعدًا لها. وللأمانة التاريخية كان النقراشى باشا، رئيس الوزراء، من أنصار عدم الزج بالجيش المصرى فى أتون هذه الحرب، لإدراكه عدم جاهزية الجيش لها، وكان يفضل تسليح الفلسطينيين للدفاع عن أراضيهم، والسماح بفدائيين مصريين بالاشتراك فى مواجهة الجيش الإسرائيلى، بل الدفع ببعض الضباط المصريين لتدريب كل هؤلاء على مواجهة الجيش الإسرائيلى. لكن الملك فاروق، وفى إطار أحلام زعامة العالم العربى، وأيضًا المزايدات بين الملوك العرب، دفع بالجيش المصرى للدخول فى هذه الحرب. ويعبّر الضابط الشاب، آنذاك، جمال عبدالناصر عن مشاعره قائلًا: «ها نحن فى هذه الجحور محاصرون، لقد غُرِر بنا، دُفعنا إلى معركة لم نُعَد لها، لقد لعبت بأقدارنا مطامع وشهوات، وتُرِكنا تحت النيران بغير سلاح».

ويوضح عبدالناصر كيف كانت معركة فلسطين فرصة للقاء الضباط الأحرار أثناء هدوء المعارك، وطبيعة المناقشات بينهم، وكيف كانت الهزيمة دافعًا للسؤال التقليدى للجيوش المهزومة: أين العدو؟ يقول عبدالناصر: «فى فلسطين جلس بجوارى مرة كمال الدين حسين وقال لى وهو ساهم الفكر شارد النظرات: هل تعلم ماذا قال لى (البطل) أحمد عبدالعزيز قبل أن يموت؟ قلت: ماذا قال؟ قال كمال الدين حسين وفى صوته نبرة عميقة وفى عينيه نظرة أعمق: لقد قال لى اسمع يا كمال إن ميدان الجهاد الأكبر هو فى مصر».

ويعقّب عبدالناصر على ذلك قائلًا: «هذا هو وطننا هناك إنه فالوجة أخرى على نطاق كبير».