رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهدنة فرصة.. إن ضيّعها العالم ضاع

كان دخول المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح لأهاليل قطاع غزة، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، ملحمة مصرية، خاضتها القاهرة مع تل أبيب، سعيًا منها لإنفاذ الغذاء والماء والأدوية لنجدة الشعب التى انقطعت به سُبل الحياة، بعد أن قامت إسرائيل بقطع المياه والطاقة وحتى الإنترنت عن هؤلاء الذين انعزلوا عن العالم، ولم يتبق أمامهم إلا طوق النجاة، مساعى مصر لإنقاذهم مما هم فيه من محنة فرضتها عليهم قوات الاحتلال، وتخلى عنهم العالم الغربى، على اتساعه، بالرغم من مناداته الكاذبة بحقوق الإنسان، فى كل مكان.
ومنذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب فى غزة، بادرت مصر فى مناشدة العالم بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وعندما تلكأ رد تل أبيب وواشنطن، فى هذا الصدد، رفضت السلطات فتح معبر رفح من الجانب المصرى، لعبور الأجانب والفلسطينيين، الذين يحملون جنسيات أخرى، (إلا بالتزامن مع السماح بإدخال المساعدات الإنسانية والطبية)، وربطت مصر السماح بدخول وعبور الأجانب وحاملى الجنسيات الأجنبية، العالقين فى معبر رفح من الجانب الفلسطينى، بدخول المساعدات، إذ إن الولايات المتحدة كانت قد طلبت من مواطنيها الاقتراب من المعبر، بعد محادثات مع مصر وإسرائيل.. وبالفعل، طلبت الولايات المتحدة من إسرائيل تأجيل الهجوم البرى على غزة إلى حين فتح (ممر إنساني)، بعد ساعات من إعلان منسق الاتصالات الاستراتيجية بمجلس الأمن القومى الأمريكى، جون كيربى، أن بلاده تجرى اتصالات مع مصر وإسرائيل لفتح ممر إنسانى فى قطاع غزة.. وقد خصصت القاهرة مطار العريش، على بعد 45 كيلو مترًا من رفح، لاستقبال الطائرات القادمة من الدول التى أبدت استعدادها للمشاركة فى هذا الغوث الإنسانى، فى الوقت الذى انطلق فيه التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموى فى مصر، الذى يضم جمعيات ومؤسسات خيرية وأهلية، فى تجهيز قوافل الإغاثة للشعب المُحاصر فى القطاع.. ومع ذلك، لم تسلم مصر من أكاذيب المُرجفين.
فى كلمته إلى العالم، خلال (احتفالية دعم فلسطين باستاد القاهرة الدولي)، مساء الخميس الماضى، أكد الرئيس عبد الفتاح السيسى، أن معبر رفح لم يتم إغلاقه، ولن يتم إغلاقه، بل سيعمل باستمرار دون توقف، نافيًا كل ما يتردد من إشاعات فى هذا الشأن، (مصر لم تغلق معبر رفح أبدًا.. النقطة دى مهمة أوي.. بقول الكلمة دى، لأن أنا شوفت كثير من المغالطات بخصوص قفل المعبر.. ماحصلش خالص.. المعبر مفتوح بشكل مستمر.. قبل السابع من اكتوبر، كنا بندَّخل ما يقرب من خمسمائة شاحنة يوميًا.. النهارده لما يبقى فيه أزمة كبيرة زى كدة، تفتكروا إن إحنا من سماتنا نغلق المعبر؟.. هنعمل كده ليه ؟.. بعض القنوات قامت بدور علشان تسيء لنا.. معبر رفح لم يغلق أبدًا.. الدور مش عندنا أحنا بس.. فيه جانب آخر.. كل الضغط والحصار اللى كان موجود، كنا حريصين جدًا على رفض ده ومجابهته).
لم تدخر مصر جهدًا لإيصال المساعدات إلى غزة، وقامت بجهود دبلوماسية شديدة التعقيد فى هذا الصدد.. وبادرت هى، وقدمت ما يتراوح بين 75 و80 % من المساعدات.. مصر لها نصيب الأسد من المساعدات التى وصلت غزة، (كلنا حاسين بيهم، وكلنا بنحاول نخفف ما أمكن عنهم.. هنتكلم عن الدور الكبير اللى قامت بيه مصر، متمثلة فى كل المصريين، من الجمعيات والمنظمات الأهلية للتخفيف على أهلنا فى قطاع غزة.. حجم المساعدات مقارنة بالمساعدات اللى تم إدخالها خلال الكام يوم اللى فاتوا دول، إحنا 75 %  إلى 80 %.. حجم المساعدات اللى جات من الدنيا كلها كوم والحجم اللى قدمته مصر كوم تاني.. مش مِنَّة ولا حاجة، ولكن كنا على قدر المسئولية وحاسين إننا محتاجين نتحرك كلنا، بالمساعدات اللى اتجهزت فى أسرع وقت).
ولأن وراء الأكمة ما وراءها، وفى الكواليس يكون الصراع من أجل الحق، وعلينا أن نقرأ ما بين السطور، فقد أكد الرئيس السيسى أن مصر تحترم القانون الدولى وتتحرك دومًا فى هذا الإطار، (إحنا دولة بتتكلم فى إطار قواعد قانون دولى، ومش هنُشعل الموضوع أكثر مما هو مُشتعل.. معبر رفح لم يغلق أبدًا ولن يغلق أبدًا فى وجه مساعدات تدخل للقطاع).. لقد قدمت الدولة المصرية والمجتمع المدنى، حتى كتابة هذا المقال، ما يقارب العشرين ألف طن من المساعدات، بجانب نقل مساعدات العديد من الدول الأخرى إلى قطاع غزة.. وهذا يدعونا إلى الفخر بموقف القيادة السياسية المصرية من الأزمة، بما يحفظ للشعب الفلسطينى حقه فى تقرير مصيره، وبالدعم القوى المُقدم من كافة مؤسسات الدولة والتحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموى، ومن الشعب المصري.. ويؤدى الهلال الأحمر المصرى دورًا محوريًا فى أعمال الإغاثة الإنسانية، وهو ما دفع الدكتور عبد الله بن عبد العزيز، مستشار الديوان الملكى السعودى للشئون الإنسانية، إلى القول بأننا نعيش ونمر بأزمة كارثية كبيرة جدًا فى قطاع غزة، ولقد (شاهدنا الجهود الكبيرة التى تقوم بها جمعية الهلال الأحمر المصرى، وهو ما دفعنا لتجديد الشراكة معها، بتوقيع اتفاقية تعاون، تهدف لتوسيع الشراكة بين مركزنا والهلال الأحمر).
واليوم، تتكلل جهود مصر بالنجاح، بدخول اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت فى قطاع غزة حيز التنفيذ، صباح أمس الجمعة، بعد وساطة حثيثة، بذلتها مصر بتفانٍ وإخلاص، وقدرة فائقة على النقاش، نصرة للشعب الفلسطينى المنكوب، وأسفرت عن هدنة لأربعة أيام وإطلاق عدد من الرهائن الإسرائيليين لدى حماس مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين فى سجون إسرائيل، من النساء، فى كلا الجانبين، والأطفال دون سن التاسعة عشرة عامًا، بالإضافة إلى إطلاق قوافل المساعدات الإنسانية، عبر معبر رفح باتجاه القطاع، بما يزيد على ثلاثمائة شاحنة يوميًا.. خطوة مهمة نحو تلبية حاجات الشعب المحروم من الماء والغذاء، ودعمًا للقطاع الطبى هناك، بالأدوية والمستلزمات الطبية لعلاج المرضى والمصابين من أهل القطاع.. والأهم، دخول شاحنات الوقود، التى أصر الكيان الصهيونى على حرمان القطاع منها، خوفًا من تسربها لحماس، مع أنها كفيلة بإعادة الحياة لما تبقى من المستشفيات وتشغيل مصادر للكهرباء المقطوعة منذ اندلاع الحرب، قبل ثمانية وأربعين يومًا.
وأخيرًا.. لا أعتقد أن الدور المصرى سيهدأ لحظة، من الآن فصاعدًا، سعيًا منه نحو استمرار هذه التهدئة، والوصول إلى حل نهائى للأزمة المتفجرة فى القطاع.. وكما انطلقت الدبلوماسية منذ اللحظات الأولى للحرب نحو العالم، تسأله الانتصار للقيم الإنسانية، والتخلى عن حسابات الانحياز الأعمى للدولة العبرية، دون اعتبار للإنسان الفلسطينى وأرضه السليبة، ورغبته الدائمة فى أن يحيا فوق هذه الأرض، كأى إنسان على وجه البسيطة، متمتعًا بحقوقه التاريخية، مطمئنًا على غده، غير منتظر لطائرات تدك البيوت على رؤوس أصحابها.. دبلوماسية مصرية تساندها أسباب القوة التى أخذت بها القيادة السياسية، ولوحت بها غير مرة، قبل أن ترسم خطأ أحمرًا جديدًا، عند الحدود الفاصلة بين صحراء سيناء المصرية وحدود قطاع غزة، عند رفح، مستعينة بقوة الحكمة وحكمة القوة التى عرفها عنها العالم، وقدرها فاحترمها، وراح يحسب لها ألف حساب.. فالتاريخ حاضر بين طيات الحاضر، ومن لم يتعلم من التاريخ، فلا يلومن إلا نفسه.
إن العالم مُطالب الآن إلى الاستماع إلى صوت العقل، والتحلى بقيم الإنسانية، التى تؤمن بها مصر، وليبرهن على أنه ذلك المتحضر الذى ملأ الدنيا ضجيجًا بحضارته.. عليه أن يتحلى بالشرف الإنسانى، ولينتصر للحق ولو مرة، مثلما هى مصر دائمًا.. تقف وراء الحق وتسانده، وتدفع عنه غائلة الباطل، حتى يتبين للجميع أنه الحق من مصر، وهى فرصة لتُفتح أبواب الحوار فى إسرائيل على مساحات واسعة، بحثًا عن الأمن المفقود.. وكم نادى الرئيس عبد الفتاح السيسى العالم مرارًا، بضرورة منع العنف وتحقيق العدل، درءًا للإرهاب الذى يتولد عن غير ذلك.. وقد أثبتت الأيام صدق مقاله، حتى وصل هذا الإرهاب إلى عُقر دار الغرب.. هى فرصة أمام هذا العالم، إن ضيعها أضاع نفسه، وعليه الآن أن يستمع فيعى ويجيب، حتى انتصارًا لنفسه، قبل أن يكون إحقاقًا للحق الفلسطينى السليب.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين..