رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنسنة القضية.. هى الحل

تعريب القضية الفلسطينية وأسلمتها أضر بها ضررًا بالغًا، فالقضية الفلسطينية ليست قضية العرب وحدهم، وليست قضية المسلمين وحدهم، والفهم الحقيقي والواعي والتعاطف العالمي الحالي مع القضية الفلسطينية هو أكبر المكاسب التي تحققت للقضية طوال ٧٥ عامًا، وهذا أكبر دليل وبرهان على أن أنسنة القضية الفلسطينية هي الحل وهي المكسب الحقيقي لكل ما حدث، ورغم كل ما حدث من مآسٍ وفواجع.. فصمود الشعب ومقاومته الباسلة وما ارتكبه العدوان الصهيوني من مجازر ضد الأبرياء العُزل وقتلهم للأطفال واستهدافهم للصحفيين والاطقم الطبية وممارسة أحط أنواع التطهير العرقي والتهجير القسري وحرب الإبادة وسياسة العقاب الجماعي، وضرب عرض الحائط بالمواثيق الدولية وباتفاقية جنيف ذاتها ومواثيق حقوق الإنسان وما تقره الهيئات الدولية ومنظمة الصحة العالمية، وارتكاب الصهاينة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية- حتمًا لا تسقط بالتقادم- وسيأتي اليوم الذي يحمل في طياته القصاص العادل  الحق لا محالة.. ذلك اليوم المعلوم الذي سترد فيه المظالم وكل آتٍ قريب مهما طال الزمن أو طال الانتظار.. فالظلم إن ازداد نهارًا فهذا يعني أن العدل قد اقترب، أما تصدُر حركتي "حماس " و"الجهاد الإسلامي و"حزب الله " المشهد في فلسطين فقد أضر بالقضية وبأنسنتها منذ سنين طويلة هذا ما لا شك فيه.. أما الآن فقد اختلف المشهد كل الاختلاف.. ورغم  أي خلاف أو اختلاف مع حركات الإسلام السياسي.. ومع التأكيد على أنها شر مطلق ودومًا ما تكون لها مآرب أخرى، فالآن وبالتحديد لا يمكن بأي حال من الأحوال توجيه اللوم للمقاومة والمعركة دائرة لعدم شق الصف أو تشتيت المقاومين.. ولنأجل أي اعتراضات أو صدام مع تلك الحركات لما بعد المعركة، فلكل حادث حديث ولن نضع العربة أمام الحصان.. فالقضية  الفلسطينية قضية شديدة التعقيد ومواقف غالبية الأطراف فيها ليست مجال بحث أو تدقيق أو حتى انتقاد الآن.. فالقضية في الأساس قضية شعب وأرض وحق ونضال وتضحيات قُدمت من الجميع ومنذ قديم الأزل من أجل إرساء قواعد العدل والمطالبة بالحق في العودة للاجئين واسترداد الأرض التي تم اغتصابها بالقوة وبغير حق وإقرار حل الدولتين. 
حتى قامت أحزاب الإسلام السياسي بالسطو على القضية لتحقيق مشروعها الإمبريالي البراجماتي والذي يمنح دومًا دولة الكيان الصهيوني شرعيةً للاعتداء -الذي يعتبرونه دفاعًا - وللاستيطان والقتل والتنكيل بالشعب الفلسطيني- والذي أيضًا يعتبرونه دفاعًا وحربًا ضد الإرهاب! 
نعم لقد تاجر هؤلاء وزايدوا  على حق الشعب الفلسطيني في أرضه لتحقيق مشروعهم التوسعي، لكن المشهد الآن مختلف كل الاختلاف وبشكل جذري.. لقد اختلف المشهد كليًا الآن ١٨٠ درجة، مع العلم والتأكيد على نضال جميع الأطراف في الأراضي المحتلة بدءًا من (منظمة التحرير الفلسطينية) التي ناضلت طوال عهدها، كذلك فعلت منظمة (فتح) وما زالت من خلال (كتائب شهداء الأقصى) وقدموا جميعًا تضحيات وشهداء للقضية وللوطن دون الزج بالعروبة أو بالإسلام في قضية إنسانية وطنية حقة.. فالقضية قضية الإنسان وقضية الفلسطيني في المقام الأول.. قضية شعب مطارد ومشرد ومحاصر يعيش غالبيته في الشتات ويتعرض للتهجير القسري والإبادة والتطهير العرقي، ويعاني منذ أكثر من ٧٠ عامًا. 
(جورج حبش) مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومعه (أبوعلي مصطفى) لم يكونا شيعةً أو سنة.. ولم يرفعا لواء الإسلام في نضالهما من أجل الوطن ولم يرفعا أيضًا أي شعارات مسيحية أو أي شعارات دينية في المطلق كما يفعل الصهاينة.. وقدم هؤلاء وغيرهم للوطن وللإنسانية سجلًا حافلًا من التضحيات المنزهة دون تصنيف أو تفرقة أو تقزيم أو تفتيت للنضال أو للقضية، وغنت فيروز للقدس وشوارعها العتيقة وتغنت بزهرة المدائن ولم تكن تناضل بصوتها من أجل فصيل معين أو حزب مسلح سلاحه عشوائي، ويريد أن يكون دولةً داخل الدولة.. لقد غنت فيروز للقدس ولفلسطين والإسكندرية ومصر لا لميليشيات مسلحة، وهذا ما يغفله أو يتناساه الكثيرون ممن أصيبوا بطرش اختياري أو نوع من العمى الانتقائي للبصيرة، فصار ضميرهم ضريرًا يرفض عن عمد أو عن جهل تقديم الدعم أو حتى التضامن المعنوي مع القضية الفلسطينية تحت ذريعة أنها ليست قضيتهم وأنهم غير معنيين بها وأنها قضية حماس والجهاد الإسلامي والإسلام السياسي! لقد تاجر الإسلام السياسي بقضية القدس لسنين وعرّتهم القدس أيضًا لسنين وما زالت تعري القدس من يتشدق بها، أما (طوفان الأقصى) فقد غطى هذه المرة على الكل، وتجاوز الكل وجعلهم يرتفعون ويرتقون على كل الفروقات والتصنيف والتشرذم.. لقد غطى الطوفان الشعبي والدولي على جميع الفصائل المتناحرة وكل أنواع  التشظي والضحيج ليرفع شعار الوطن والمقاومة الموحدة ويرفع علم فلسطين. 
وبالتالي فليس من الكياسة ولا من حسن الفطن دحض المقاومة الآن أو رفضها أو إدانتها أو تحميلها ما لا تحتمل، ومن ثم تبرئة الصهاينة وخلق الذرائع لهم أو إيجاد الذريعة لرفض أو كراهية قضية الحق والعدل الإنساني المنزه.
"راشيل كوري" التي سالت دماؤها تحت الجرافة الصهيونية لم تكن تدعم قضية عربية أو إسلامية، لقد ضحت بنفسها من أجل الإنسانية ومن أجل أطفال مشردين بلا منازل استوطنها صهاينة أصوليون تقوم دولتهم الكاذبة على أساس ديني، فدولة الكيان الصهيوني ليست دولة علمانية كما يعتقد كثيرون.. هي دولة دينية عنصرية طائفية، هي دولة فصل عنصري وبامتياز، هي كيان مغتصب قام على أساس ديني وأيديولوجي وأوجد لنفسه موطئ قدم غاشمة على أرض لم تكن لهم، سالت عليها دماء أبرياء أُخرجوا من ديارهم بغير حق وما زالوا يتكبدون المعاناة.. لقد هُجر الفلسطينيون تهجيرًا قسريًا لا إنسانيًا منذ سنين بدعم كيان يدعي أنه يقوم على أسس علمية ويعتمد على التكنولوجيا والتمدين والحضارة والعلم وهو يقتل ويشرد ويرتكب مجازر في حق أبرياء عزل وقفت شعوب العالم الغربي معهم وساندتهم بشكل غير مسبوق، كما ساندتهم مؤسسات الإغاثة الدولية  كالصليب الأحمر و"الأنروا" أكثر بكثير من دول عربية إسلامية بل وأكثر وبكثير من مزايدات فصائل الإسلام السياسي وجماعة الإخوان التي دومًا ما كانت تتاجر بالقدس وبالقضية الفلسطينية لتقتل تلك القضية برصاصة غائرة في القلب وتقضي عليها بالضربة القاضية عندما تضفي أيديولوجيتها وأطماعها التوسعية وتتذرع بها فتتأذى القضية الإنسانية العادلة.. لقد شاهدت في مخيمات اللاجئين في لبنان (مخيمات صابرا وشاتيلا) الأجانب يتهافتون على تقديم العون والدعم والمساندة لأطفال المخيمات بإنسانية منزهة وشاهدنا في طوفان الأقصى مسيرات في شوارع أوروبا وكندا وبريطانيا ونيوزيلندا بل وأمام البيت الأبيض وفي جميع الولايات الأمريكية وهتف طلاب الجامعة الأمريكية في مصر من أجل فلسطين ورفعت أعلام فلسطين داخل أسوارها في القاهرة وفي جميع عواصم العالم في إطار حالة من اليقظة والإفاقة الإنسانية التي تضاف لرصيد القضية الإنسانية الحقة. 
ومن ثم يكون الإصرار على تعريب قضية فلسطين وحصر المقاومة  فيها على تيارات الإسلام السياسي تزييفًا وظلمًا للقضية الفلسطينية يهدمها تمامًا من الداخل ولا يخدم عدالتها ولا يَصب حتمًا لصالح  شعبها مع التسليم بدور المقاومة الحالي في تحرير فلسطين ونضالها الحقيقي والفعلي على الأرض من أجلها..فطوفان الأقصى هو حتمًا الطريق لتحرير فلسطين.. والقضية الفلسطينية قبل السابع من أكتوبر ليست هي ذات القضية بعد هذا التاريخ -مع التسليم بالطبع بعدالة تلك القضية منذ ٧٥ عامًا - فالمعطيات الآن اختلفت وقوانين اللعبة السياسية أيضًا اختلفت حتى المقاومة ذاتها صار لها حقًا وجود حقيقي على الأرض هذه المرة، ولم تعد مجرد شعارات جوفاء وصار التعاطف الشعبي الدولي مع القضية حاليًا  عنصرًا مضافًا لها لا يمكن الاستهانة به وبعدًا جديدًا أضيف للقضية لتتغير موازين القوى ولتصبح الغلبة لفلسطين وللمقاومة ولتتعرى دولة الكيان الغاشم ويكتشف العالم فداحة جرمها وخرقها كل الأعراف والقوانين وأن جيشها ليس جيش دفاعو بل قتل وتشريد وإبادة وأنها كيان يرتكب جرائم في حق الإنسانية لا تسقط بالتقادم وتعالت الأصوات الآن لتنادي بالإنسانية واحترام حقوق الإنسانية ومراعاتها في حرب الإبادة تلك، وصارت الإنسانية اصطلاحًا يتردد كثيرًا في الآونة الأخيرة ما يجعل من (أنسنة القضية) التي ناديت بها مرارًا وتكرارًا أمرًا مهمًا وملحًا الآن ويصبح من الصواب والرشد أن نؤنسن القضية أكثر وبكثير من التعويل على تعريبها وأسلمتها مع حفظ كل الحقوق وكل الاحترام لمن قاوم على الأرض وارتقى من أجل الأرض، لا من أجل الأيديولوجية أو الفصيل وكل تلك الصراعات الصغيرة الصفرية التي لا بد أن تتضاءل الآن أمام إنسانية القضية وأنسنتها وأمام فداحة ما يلاقيه أهلها على الأرض 
لتصبح أنسنة القضية الفلسطينية هي الحل وليس الإسلام هو الحل ولا أسلمة القضية تعد حلًا. 
لقد أهدر واستنزف كثيرون وقتًا وهم يهتفون هتافهم المتهافت الشهير (خيبر يا يهود)! رغم وقوف الكثير من اليهود مع فلسطين ضد الصهيونية ونادى آخرون على "أمة محمد " و"أمة صلاح الدين" "الكردي" لنصرة فلسطين! وتساءلوا (وين الملايين)؟! وذهب صراخهم وهتافاتهم سدى وتقاذفتها الريح حتى صارت باطلًا وقبض ريح فأعلن (نزار قباني) عن وفاة العرب وهجاهم في قصيدته الشهيرة وكذلك فعل (مظفر النواب) من سنين طويلة ولم يتغير شيء ولا أظنه سيتغير بذات المنهاج!
فتغيير المنهاج والطرح والتوجه جعلنا نحصد مكاسب دولية وتعاطفًا دوليًا لا يستهان به.. وتغيير الاستراتيجية التى تم طرحها من سنين -ولم تأتِ بجديد-  أمر كان لا بد منه من أجل حل جذري للقضية الإنسانية الحقة.
فلنتخلص إذًا من الطرح القومي والعروبي للقضية، ونطالب بعدم الزج بالإسلام فيها لمنحها الشرعية الإنسانية والدولية ولنطالب بأن تكون القدس للفلسطينيين لا أن تكون القدس عربية أو إسلامية فقط. 
مسيحيو الناصرة وبيت لحم أكثر وطنية من جماعات الإسلام السياسي وهذا ما يفسر - ولا أقول يبرر-  عدم حماسة قطاعات كبيرة لدعم القضية الفلسطينية وصار البعض يعادى ويرفض مجرد التضامن مع القضية اعتقادًا من هؤلاء الرافضين بأنها قضية لا تعنينا تاجر بها الإخوان ورئيسهم مرسي ومرشدهم وتاجرت بها أحزاب وفصائل الإسلام السياسي، فهي إذًا قضيتهم هم لا قضيتنا نحن!
وإن صح الزعم أو الطرح السابق والذي أعتبره غير صحيح وفيه قصر نظر، ففلسطين - وغزة بالتحديد - هي الآن قضية أمن قومي مصري في المقام الأول، لقد تكبد أهل غزة وما زالوا وتكبد أهلنا في فلسطين من أجلنا نحن ومن أجل أرضنا ومن أجل سيناء الذي يشتهي السطو عليها عدو الأمس واليوم وغدًا وهو العدو الصهيوني الذي لم ولن يصبح في يوم وليلة وليًا حميمًا، بل إن نتنياهو الآن أخطر على مصر من حماس نفسها. 
ولتكن قضية فلسطين هي قضية الإنسانية وقضية الشعب الفلسطيني ومن هنا تأتي شرعية التضامن معها وشرعية المطالبة بحقوق الفلسطينيين المهدرة، وأن تكون القدس عاصمة لدولة فلسطين ولا تكون القدس أولى القبلتين فقط أو ثالث الحرمين فقط، فالقدس لكل الأديان كما صرح بطل الحرب والسلام، وليست حكرًا للمتاجرين بها ولا حقًا للمتذرعين بها وليست ملكًا لحاملي السلاح العشوائي.. القدس هي قدس الله وأنسنة القضية الفلسطينية هي الحل وفلسطنة فلسطين هي الحل وفلسطنة القدس أيضًا هي الحل.