رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عمرك يا ابنتى قصير

أعشق المجهول، وأعشق البن المحوج، فكيف لي أن أقاوم امتزاجهما في فنجان قهوة يرتشف خيوط الغيب؟
أعشق المجهـول، وأعشق البن المحـوج، فكيف لي ألا أمتثل لأوامـر عرافة ذائعة الصيت، في قلب موازين الكون وحقائق القلـوب، اختارتني  دون كل نساء الجلسـة، لتكشف عنـي الـحجـاب، وتطلقني فضيحة معلنة الأسرار؟
نظرت العرافة إليَ من بعيد.. ارتعشت ذبذبات الهواء.. ارتبكت الرشفة الأخيرة.
سألت العرافة: «منْ تكون تلك الصامتة الشاردة ذات الشعر مختلط الألوان المسافر في كل اتجاه؟.. مـنْ تكون تلك المختبئة وراء الثوب الأسود، المرصع بآخر حكمة مرسلة إلى البشر؟
في ثقة سهلة ممتنعة، بإشارة واحدة من يدها اليمنى المحاطة بأساورمن ذهب، طلبتني.
كمنْ أصابتها مس من السحر، ذهبت طـوع إشارة يدها. وكيف كان لي البقاء حيث أنا،  وهي العرافة ما استحضـرت غيبًا، إلا وجاءها راكعًا، يتوسل أن تفتح أبوابـه السرية، وما لمست فنجانًا إلا واستسلمت شفراته بين يديها المنقوشتين بالحناء ؟؟ 
جلست بجانبها.
أرسلت نظرة نفذت من أعماقي إلى فنجان قهوتي.
قالت: «كلهن طلبن أن أقرأ لهن الفنجـان إلا أنتِ...  كلهن يثرثرن، يضحكن، يدخن إلا أنتِ....  كل منهن بصحبة أحـد إلا أنتِ. اقتربت أكثر وسألتني: " منْ أنتِ ؟".
قلت: «امرأة وحيدة تعشق المجهول والبن المحوج».
قالت: «وتعشق اللون الأسود».
ترد ابتسامتي، نعـم.
أصبحت نظرتها أكثر عمقا: «منذ زمن وأنا أبحث عنكِ».
تسألها دهشتي دون كلام، عني أنا؟
تقول العرافة: «نعم يا ابنتي. فمنذ زمن وأنا أبحث عن آخر عـاشقات الوحدة واللون الأسود».
تشـرد لحظات وتستطرد: « يطلبني الجميع لكشف خبـايـا الغيب. لم يحدث أبدًا أن طلبت أنـا قراءة أسرار أحـد. معـكِ أنـتِ يـا ابنتي لا مفـر ولا اختيار. منذ زمن وأنا أبحث عن غيب أستأذنه. منذ زمن وأنـا أبحث عن فنجان أرجوه». 
ناولتها فنجاني.
قالت العرافة: «لا، ليس هنـا. لستِ أنتِ بالتي تكشف أسرارها وسط العيون، حتى لو حاولت، فنجانك عنيد لن يستسلم».
أخذت يدي.
دخلنـا إلى ممر طويل معتم لا يضيئه إلا نـور عينيها، وبريق دهشتي. وانتهينا إلى حجرة خافتة الضوء، تفوح منها رائحة البخور، ورائحة المجهول حين يشتاق إلى أن يصبح معلومًا. 
تسللت العـرافة - ذائعـة الصيت في قلب موازين الكـون وحقـائق القلـوب - إلى فنجان قهوتي. بقيت هنـاك. انتظرتهـا، لا يؤنسني إلا شـدو الكروان، و«عشم » في رحمة «الغيب». 
خرجت العـرافـة من بقايا البن المحـوج الملتصق بفنجـان قـهـوتي.. يتصبب منها العرق.
قالت العرافة: «اسمك ذروة الأحلام.. عقلك كالهواء مخاطر أبدأ في الأجواء.. قلبك يا ابنتي كالماء، الإمساك به درب من المحال..... 
وحيدة أنتِ وستظلين حتى الرمق الأخـير. أمـيرة أنت بالفطرة، لكنك - عكس كل الأميرات - لا تنتظرين الأمير. أنتِ في عشق محرم مع «البحر»، من أجلـه، تتحملين مشقة الأسـفـار ولـوم البشر، من أجلك لا يبالي بغضب الموج، أو احتجاج الأسماك....
أمامك سكة سفـر على قضبان من حنين. تعودين منها في ليلـة قمرية، النفس هادئة، والمحال أسير..... 
سيحبك رجـال كثيرون. كلهـم يـا ابنتي مخطئون، فأنتِ لا تبحثين عن الحب. عن الدهشة تبحثين، عن الخطـر وعن الجنون. هـذا قدرك يا ابنتي إياكِ منه والهروب....
ستعيشين وتموتين بكرًا. حتى لو عاشرتِ رجال الأرض، وتزوجتِ ألف مرة، فسوف تُزفين إلى السماء زهـرة عذراء، خضراء واقفة مثل الأشجار. ليس لكِ أعداء إلا غرور البشر، وتفاهات الناس. لا تخافين إلا أصواتهم الخشنة، وعقولهم الهشة، وليس لكِ أصدقاء يا ابنتي، إلا زهور البنفسج، اللون الأسود،وهمس الدهشة..... 
بعد سبعة أيام، سيزورك هاتف في المنام، لا تردي له كلمة، واتبعيه دون سؤال.. سيهديك باقة ورد صفراء، خذيها وحذار التفريط فيها...... 
ميلادك كـان في الربيع. لكـن رحيلك شتاء. تلهثين إلى الفرح.. تلهئين أكثر إلى البكاء. بينك وبين يوم الأحد، ود غامض. لكن أسعد أيامك الأربعاء.... 
احذري أيـام ۸، ۱۸، ۲۸ من كل شهر.. لا تقابلي أحـدًا، لا تتناولي إلا الماء والخبز الجاف، ولا تنامي إلا بعد الفجر، وفي أيام 13، ۱۷، ۱۹، ۳۰، ۳۱، تُفتح لكِ أبواب السماء، فافعلي مـا يحلو لكِ،  واطلبي ما تشائين.....
وحين يهل الشهر الأخير من العام، انتظري مفاجأة داخل خطاب وردي اللون معطر بالياسمين، يصلك ليلة الحادي والعشرين.... 
عمرك يا ابنتي قصيـر. فلا تضيعيـه فـي التـردد والحلم، لا تهدريـه في الانشغال بما ليس لك عليه حكم.....
تذرعي بالصبـر يـا ابنتي.. ففي الأفق الـرمـادي البعيد، جـرح لا يلتئم، وأحزان لها من العمر ألف عام..... 
الفرح خطيئـة نبيلة لا تهبك أسرارها، إلا حين تمسكين بالقلم، وتحطين على الورق نفسك الأخرى في عالم آخر».
رحلت العرافة ذائعة الصيت في قلب موازين الكون وحقائق القلوب. تُرى 
هل ما زلت أعشق المجهول وأعشق البن المحوج؟
----------------------------------------------------------------------
من بستان قصائدى 
----------------------------
تستغلون الثغرات والظروف
تصنعون صكوك الغفران
وحُسن السير والسلوك
تكدسونها فى البنوك
أبدًا لن تكونوا
دولة محاكم التفتيش
والنهى عن المنكر
وبالكرباج تأمرون بالمعروف
بالعِفة المزيفة تغطون النساء
بالفتاوى تشعلون النار فى أكبادنا
تلعنون الإبداع والفنون
تزدرون تحليق العصافير
تصبون ماء الكراهية
فى طعامنا وشربنا
وتئدون الأقلام والحروف