رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أربعون يومًا من الحرب الضارية على غزة

مرت الأربعون عاجلة، أربعون يومًا من الحرب الضارية على غزة، لم تكن حربًا عادية بالمرة، كانت شديدة وعنيفة وفتاكة بكل معاني الكلمات، وما زالت كذلك، بالرغم من كل نداءات الإيقاف النهائي العاجل، أو حتى الهدن المؤقتة.. دمرت البيوت والمدارس والمستشفيات والمخابز والمزارع والمحال وكل شيء تدميرًا كثيرًا، وقتلت الأطفال والنساء، وأجاعت وأعطشت وأحرقت وحرمت وأفنت وأبادت وأهلكت، وقد كان الهدف الإسرائيلي من الحرب واضحًا من البداية:
القضاء على حماس.
استعادة الأسرى والمخطوفين.
أربعون يومًا ولم تقض إسرائيل على حماس، بكل جبروتها العسكري ومعوناتها الأمريكية والأوروبية، ولا حتى قبضت على رجل واحد مهم في الحركة، أو حتى فرد عادي، ولا كشفت أماكن اختبائهم بوضوح، بصرف النظر هنا عن رأيي الخاص في تلك الحركة الإسلامية التاريخية، التي نذرت نفسها للمقاومة من الأول، وصارت مع الوقت فكرة فوق ما بقيت أفرادًا مسلحين يتحركون على الأرض في جنح الظلام منسلين من أنفاقهم العميقة، أعني وقتما تناديهم الأحداث المستعرة، هم حكام غزة في الأول والآخر، لكنهم ليسوا كسائر الحكام؛ فظروف الاحتلال منحتهم خصوصية أكيدة، لم تجعلهم أصحاب أبهة وصولجان، وإن ظلوا معتبرين ومهيمنين، لكنهم أبناء نضال مستمر، يصدقون قضيتهم إلى حد إيثارهم التضحية بأنفسهم ونفائسهم في سبيلها.. أربعون يومًا ولم تزل قضية الأسرى والمخطوفين معلقة، إلى الدرجة التي أخرجت الإسرائيليين من بيوتهم إلى الشوارع متظاهرين، ينددون بالأداء السياسي والعسكري، ويحملون رئيس وزرائهم نتنياهو تبعات ما يجري على الأرض، ويطالبون بإنهاء اللعبة الخطرة التي بدأت ولا تريد أن تنتهي، بدأت بعد عملية السابع من أكتوبر التي قامت بها حماس، العملية التي كانت بالأساس ردًا على انتهاكات إسرائيلية متكررة للبشر والمقدسات، ولكن العالم المتقدم رآها اعتداء بلا سبب، ورآها، مبالغًا تمامًا، أكبر جرائم التاريخ الحديث وأكثرها بشاعة، وهي، بالقياس إلى ما فعلته إسرائيل بعدها بغزة، كحجم نملة مقارنة بفيل، كما أن المقاومة ترد على تصرفات غاصب ليست الآفاق له، والغاصب المخاتل يضم الآفاق بعد الآفاق ويدعي أنها ملك يده!
لا أوافق على قتل المدنيين الإسرائيليين طبعًا، لا أوافق بالمرة، وبالذات ذلك القتل المباغت في أجواء الأعياد، لكنني أسأل بصدق: هل المستوطنون الإسرائيليون مدنيون أصلًا؟! أليسوا حملة أسلحة بما يسقط عنهم الصفة المدنية؟! أليسوا سكان أرض لا يملكونها يقينًا؟! هناك بالضرورة مدنيون مسالمون، ولكن الأغلبية تجاري قواعد الاحتلال البغيضة.
الحديث الذي يختبئ وراءه نتنياهو الآن هو حديث ما بعد الحرب، فشل في الحرب على مدار أربعين يوما كاملة، ثم ها هو يتحدث عما يجب أن يكون بعدها، وهو حديث مستفز ومثير للريبة حقًا، ويزيد النار المشتعلة اشتعالًا؛ فله شأنه وللفلسطينيين شئونهم مهما أخذنا اختلاط الطائفتين في الاعتبار، وأقصى ما كان يمكن أن يقوله: علينا أن نتباحث فورًا فيما كان ويكون، نتباحث بنزاهة وصدق، ومعنا الأصدقاء.. "بعد أن يطفئ النار كلها بالطبع"!
على كل حال للتباحث حديثه الخاص بعد أن تضع الحرب أوزارها، وقد يستحيل جريانه بمجرد صمت الآلة العسكرية الطنانة، نظرًا لغلبة الثأر في النفوس، غير أن مثله حتمي بلا جدال، والحلول السلمية القطعية حتمية أيضًا بين الفلسطينيين والإسرائيليين والروس والأوكران، وكل المتنازعين والمتصارعين بعالمنا في الحقيقة؛ لأن الحرب لها تكلفتها الباهظة التي تتعارض مع آمال الإنسانية في حياة يحفها الخير والصلح والأمان، حياة طيبة يستطيع الناس خلالها أن يمارسوا أعمالهم وحرياتهم بتلقائية وبساطة، واجدين غنى وهدوءا يساعداهما على المعيشة الراقية المطمئنة.