رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيليب لازارينى يكتب: شهادتى من قلب الجحيم

فيليب لازارينى
فيليب لازارينى

«هل معك ماء أو خبز؟».. كل طفل التقيت به فى غزة، الأسبوع الماضى، كان يسألنى هذا السؤال. كنت أول مسئول رفيع المستوى فى الأمم المتحدة يدخل غزة، منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣. وعلى مدى أكثر من ٣٠ عامًا من العمل فى مناطق النزاع، كان لقائى مع الأطفال والنساء والرجال فى ملجأ تديره «الأونروا» «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئى فلسطين» أحد أكثر اللقاءات حزنًا خلال عملى فى المجال الإنسانى.

التقيت فلسطينيين نازحين لجأوا إلى إحدى مدارس «الأونروا» فى رفح. تجولت فى المدرسة التى تحولت إلى ملجأ مع مجموعة من النازحين الذين أطلعونى على الأضرار الناجمة عن القصف الذى تسبب فى مقتل وجرح الناس. وبينما كنت أستمع إلى قصصهم، كان لزامًا علىَّ أن أذكّر نفسى باستمرار بأننا فى داخل مدرسة، مكان مخصص للتعلم والضحك واللعب. بدلًا من ذلك، كنت فى ضائقة لا يمكن تصورها وظروف معيشية مروعة. لم أستطع الإجابة عن سؤال أساسى جدًا من الأطفال الخائفين والجائعين والعطشى؛ هل كان معى ماء وطعام لأقدمه لهم؟

هنالك أكثر من ٧٠٠ ألف شخص يعيشون الآن فى نحو ١٥٠ مبنى تابعًا لـ«الأونروا» فى قطاع غزة، يودون فقط كسرة من الخبز ورشفة من الماء. وكان يتعين على المدنيين الذين لجأوا إلى ملاجئ الأونروا وآمنوا بقوة العلم الأزرق للأمم المتحدة أن يصارعوا الدمار والموت، بدلًا من الشعور بالاطمئنان فى أمان الحماية الدولية.

وفى الوقت الذى أكتب فيه هذه السطور، قتل ٩٩ من زملائى فى «الأونروا»، بينما لحقت أضرار بما يقارب ٥٠ من مبانى الوكالة، بعضها أصيب بشكل مباشر. ومنذ يوم ٧ أكتوبر، بلغ عدد القتلى أكثر من ١٠ آلاف شخص، حسب وزارة الصحة فى غزة، من بينهم أكثر من ٤٠٠٠ طفل. وهذا أكثر من عدد الأطفال الذين قتلوا فى جميع النزاعات حول العالم فى أى عام، منذ عام ٢٠١٩.

وخارج الملجأ الذى زرته، أصبح العالم مظلمًا جدًا بالنسبة لسكان غزة؛ فبسبب الحصار المستمر، لا يوجد طعام أو ماء أو دواء أو وقود. إن الأسواق شبه فارغة. كما أن المساعدات الهزيلة التى تصل بالشاحنات عبر رفح تقل كثيرًا عما هو مطلوب. وتنهار الخدمات البلدية تحت وطأة شهر من النزاع، ومياه الصرف الصحى تملأ الشوارع، ويصطف الناس فى طوابير لساعات أمام المخابز، ويسيطر عليهم القلق. مشاهد الفوضى تعكس يأس هذا الانتظار الطويل. وقريبًا، سيأتى الشتاء إلى غزة، وقد يموت العديد من النساء والأطفال وكبار السن.

وبمعزل عن النزاع المحتدم والمنهك، تجرى فى بعض الدوائر عملية نشطة لتجريد سكان مدنيين بكاملهم من إنسانيتهم، بمن فيهم أطفال غزة، وتصورهم جميعًا على أنهم إرهابيون. إن هذا تكتيك يحاول تبرير الضرر الهائل الذى لحق بهم، متجاهلًا موت عشرات المدنيين، ثم يصفه بأنه أضرار جانبية. ويصف بعض السياسيين سكان غزة بأنهم «إرهابيون» و«حيوانات بشرية» و«أشخاص يجب محوهم». هذه هى الكلمات التى ينبغى إخمادها، وعدم السماح باستخدامها فى القرن الحادى والعشرين.

ومن الصواب أن نعرب عن غضبنا إزاء المذبحة المروعة التى ارتكبت فى إسرائيل. ينبغى ألا يؤخذ أى مدنى رهينة، وأن يصبح ورقة مساومة. ولكن الاتهام الشامل لجميع سكان غزة لتبرير انتهاكات القانون الإنسانى الدولى هو اتهام غير مسئول، ومخادع. إنه يجرد محاولات المجتمع الدولى الواضحة للتأكيد على أن جميع الحروب لها حدود.

إن توسيع نطاق العقاب الجماعى لجميع المدنيين فى غزة ليشمل الضفة الغربية، حيث أجبرت المجتمعات الزراعية الفلسطينية على ترك منازلها وأراضيها دون سبب سوى أنها فلسطينية- يهدد بدفع المنطقة إلى الهاوية. إن الحرب فى غزة يمكن أن تشعل المنطقة بأسرها.

وفى الوقت الذى أكتب فيه هذا المقال، تقوم القوات الإسرائيلية بتوجيه أولئك الذين بقوا فى شمال قطاع غزة، وغالبًا هم من الفئات الأكثر ضعفًا، الذين لم يتمكنوا من التحرك حفاظًا على سلامتهم، إلى الأجزاء الجنوبية، بينما يستمر القصف والضربات بقتل الناس، ما يجعل الجنوب غير آمن مثل الشمال.

ماذا سيكون مستقبل أكثر من مليونى فلسطينى محاصرين ومحتجزين فى منطقة صغيرة فى جنوب غزة؟ بل إنه طلب منهم الانتقال إلى الجنوب الغربى.. إلى المناطق التى قيل لهم فيها إن الأمم المتحدة ستمنحهم الماء والغذاء. إن هذا ينبغى ألا يحدث.

بالنسبة للعديد من الفلسطينيين والخبراء فى الصراع الإسرائيلى- الفلسطينى، يذكّرنا هذا النزوح بالتهجير الأصلى لنحو ٧٥٠ ألف شخص من مدنهم وقراهم فى عام ١٩٤٨؛ النكبة. هذه الأيام، لم يخجل العديد من السياسيين الإسرائيليين من الدعوة إلى نكبة أخرى، وهذا شىء يمس وترًا حساسًا فى المنطقة.

لن تحقق الإجراءات الحالية السلام والاستقرار اللذين يريدهما ويستحقهما الإسرائيليون والفلسطينيون. إن تسوية أحياء بأكملها بالأرض، فوق رءوس سكانها، ليس هو الحل للجرائم الفظيعة التى ترتكبها «حماس». بل على العكس من ذلك، إنها ستفتح فصلًا مظلمًا جدًا فى تاريخ المنطقة.

تتمتع المحكمة الجنائية الدولية بالاختصاص، وعليها التحقيق فى الأدلة المتعلقة بجرائم الحرب المزعومة والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية من كلا الجانبين والفصل فيها، ومحاسبة المسئولين عن أفعالهم.

وإلى أن يحدث ذلك، يجب أن نعمل على احتواء ما يحدث دون تأخير. ولا بد من تفعيل وقف إطلاق النار الإنسانى فورًا، ويجب إنهاء الحصار المفروض على غزة، والسماح للمعونات الإنسانية المستمرة والمجدية بالتدفق إلى قطاع غزة دون قيود. إن هذه الإجراءات الملحة ليست عادلة ومناسبة للمدنيين فى غزة فحسب، بل هى أيضًا مناسبة للمدنيين فى إسرائيل.

إن الأطفال الذين قتلوا فى غزة لم يكونوا «إرهابيين» أو «حيوانات بشرية» أو «أشخاصًا يجب محوهم». مثلهم مثل جميع الأطفال، كانوا مفعمين بالحياة. كانت لديهم أحلام وتطلعات. على هذه المذبحة أن تتوقف. إنها فرصتنا الأخيرة لإنقاذ ما تبقى من إنسانيتنا.

المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئى فلسطين فى الشرق الأدنى «الأونروا»

■ نقلًا عن «الشرق الأوسط» اللندنية