رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التعاون الثقافى الصينى: لمحة إنسانية فى مواجهة الإمبريالية

يستمر التعاون الصيني العربي في كلا الجانبين، محاولًا تقديم الكثير من الفائدة، وتبادل المصالح لكل من الأطراف المُتشاركة، وإذا ما كان التعاون الاقتصادي العربي الصيني هو الأكثر جلاء ووضوحًا في الوقت الآني، فإن التعاون الثقافي بين الصين والدول العربية يأخذ مسارات أكثر جدية، وعمقًا، ووقارًا. صحيح أنها قد تكون أقل سرعة من نظيرتها الاقتصادية، إلا أنها ستكون الأكبر أثرًا؛ نظرًا لما تتميز به الثقافة من آثار عميقة لا يمكن محوها بسهولة.
إذن، فلم يقتصر التعاون العربي الصيني على الشئون الاقتصادية فقط، بل امتد أثره إلى الجانب الثقافي- الأعظم أثرًا- حيث لعبت معاهد كونفوشيوس دورًا فريدًا في تعميق التعاون بين كل من الصين والدول العربية، كما أصبحت معاهد كونفوشيوس نوافذ مُهمة لمعرفة الدول العربية بالصين، وقد أنشأت الصين 12 معهدًا، و4 فصول دراسية كونفوشيوسية في تسع دول عربية، وقامت بأعمال التدريب الأكاديمي لـ70 ألف طالب.
أي أن الصين حرصت على توسيع رقعة التبادل الثقافي والإنساني بينها وبين الجانب العربي من أجل تعزيز التقارب بينهما- فكل منهما يمتلك حضارة قديمة لها أثرها في التاريخ، وكل منهما يمتلك ثروة بشرية لا يمكن الاستهانة بها- ومُنذ عام 2013م قامت الصين بالفعل بتدريب 25 ألف شخص من مُختلف التخصصات في الدول العربية، كما قدمت حوالي 11 منحة دراسية حكومية لها، وأرسلت 80 فريقًا طبيًا مكونًا مما يقرب من 1700 فرد، مما يعني الاهتمام الجدي من الصين بالتقارب العربي الصيني.
هذا التعاون الثقافي، ومحاولة التقارب أديا إلى أنه في أكتوبر 2022م أعلنت 4 دول عربية عن إدراج اللغة الصينية في منظومة التعليم الوطني لها- وأظن أن تعلم اللغة الصينية من الأمور الجوهرية والمُهمة، لا سيما أنها لغة يتحدثها المليارات من المواطنين القاطنين على ظهر هذا الكوكب، أي أنها لغة عالمية مثلها مثل باقي اللغات العالمية- كما تم افتتاح كلية اللغة الصينية في 15 دولة عربية، وقد تجاوز عدد المُسافرين العرب إلى البر الصيني الرئيسي 340 ألف فرد سنويًا، وتجاوز عدد الطلاب الوافدين العرب في الصين 20 ألف فرد في كل عام دراسي.
ما الذي تعنيه هذه الأرقام الضخمة في مجال التعاون الدراسي والثقافي بين كل من الصين والدول العربية؟
هذه الأرقام- في جوهرها- تعني ثورة ثقافية بين كل من الجانبين، محاولة الاستفادة القصوى من التراكم المعرفي لدى كل منهما، فضلًا عن أن الترجمات بين الجانبين الصيني والعربي من شأنه معرفة كل جانب منهما بتاريخ، وثقافة، وحضارة الجانب الآخر؛ مما يوطد من أواصر التفاهم بينهما- فاللغة العربية يتحدث بها المليارات، تماما كاللغة الصينية.
لكن، هل اقتصر الأمر على ذلك فقط؟ 
أنشأ الجانبان آليات مختلفة للتواصل الإنساني والثقافي في إطار مُنتدى التعاون الصيني العربي، مثل مهرجان الفنون العربية، ومهرجان الفنون الصينية، وندوة التعاون الصيني العربي في مجال الإعلام، ومُنتدى التعاون الصيني العربي في مجال الصحة، ومُؤتمر الصداقة الصينية العربية، ومُلتقى المُدن الصينية العربية، ومُنتدى المرأة الصينية العربية، ومُلتقى التعاون الصيني العربي في مجال الإذاعة والتليفزيون، واجتماع الخبراء الصينيين والعرب في مجال المكتبات والمعلومات، كما تم إقامة 24 فعالية للتواصل الثقافي والإنساني في إطار هذه الآليات مُنذ عام 2013م.
إن الاهتمام الصيني بالجانب العربي لا يتخذ شكلًا، أو آلية تصدير الثقافة الصينية إلى الدول العربية فقط- بمعنى أن تكون الصين هي المُسيطر في الجانبين المعرفي والثقافي- فهم يعنيهم بالمُقابل معرفة، وفهم الثقافة العربية التي يتوجهون إليها، وهو ما أدى إلى افتتاح مركز الدراسات الصيني العربي للتعاون الثقافي والسياحي في العاصمة الصينية بكين في شهر أغسطس الماضي من العام الحالي، وهو الافتتاح الذي حرصت على حضوره هيفاء أبو غزالة- الأمينة العامة المُساعدة لجامعة الدول العربية- والتي أكدت أن هذا المركز سيتيح فرصة مُهمة للمزيد من انفتاح الحضارتين العربية والصينية على بعضهما البعض، وسيصبح مركزًا ثقافيًا فعالًا في عملية دعم مضمون الحوار الثقافي العربي الصيني بهدف تقريب وجهات النظر بين الجانبين في مُختلف القضايا ذات الاهتمام المُشترك.
هذه الرغبة العميقة في إطار التبادلات الثقافية الصينية العربية، كان لمصر منها نصيب كبير في التعاون بين الجانبين، والتي كان منها زيارة وزير الثقافة والسياحة الصيني، هو خه بينغ، للقاهرة في الأول من إبريل الماضي، حيث قام بالتعاون مع وزيرة الثقافة المصرية، نيفين الكيلاني، بإزاحة الستار عن معرض فني بعنوان "التقاء الفنانين في طريق الحرير"، وذلك في قصر الفنون بدار الأوبرا المصرية. وقد أقيم المعرض بدعم مُشترك من وزارتي الثقافة في الصين ومصر وجامعة الدول العربية، حيث تم عرض 87 عملًا، من بينها 40 عملًا لفنانين صينيين، و47 عملًا لفنانين عرب، تعكس جميعها الفهم المُتبادل لكلا الطرفين.
إن التعاون الثقافي المصري الصيني أخذ العديد من الأشكال بين كل من البلدين، حيث استضافت القاهرة الدورة الأولى لمُنتدى الأدب الصيني المصري في يونيو 2018م تحت عنوان "الإبداع الأدبي على طريق الحرير الجديد" برعاية اتحاد الكتاب الصينيين، واتحاد كتاب مصر، وتمت مُناقشة موضوعات التراث والإبداع الأدبي "الأدب في الحياة المُعاصرة"، و"حركة ترجمة الأعمال الأدبية"، كما أصدرت اللجنة الوطنية المصرية للمتاحف بدعم من مكتبة الإسكندرية وبيت الحكمة بالصين في أغسطس 2017م كراسة متحفية عن متاحف الصين ألفها "لي شيايوناو"، و"لو شهون" بهدف التعريف بمتاحف الصين التي تشتهر بتنوعها وتعددها، حيث كانت تُحفظ التُحف الفنية النادرة لدى الأسر الحاكمة في الصين، وبيوت الأثرياء، وكبار رجال الدولة، وبالتالي فهي أقدم من فكرة نشوء المتاحف في إيطاليا.
ثمة تعاون أيضًا بين عدد من الجامعات المصرية- الإسكندرية، وطنطا، وقناة السويس، وكفر الشيخ- والصينية لإرسال طلاب إلى مصر من أجل دراسة اللغة العربية، وقد بلغ عدد الطلاب الصينيين الدارسين للغة العربية في مصر ما يقرب من 24 ألف طالب صيني، وهو رقم كبير إلى حد ما، مما يُدلل على اهتمام الصين باللغة العربية من أجل سهولة التواصل بين الجانبين، فضلًا عن رغبتها الحقيقية في التبادل المعرفي، فهي لا تقوم بتصدير ثقافتها، وتراكمها المعرفي والحضاري فقط، بل يهمها في الآن ذاته تحصيل الثقافة، والمعرفة، والحضارة والتاريخ العربي من أجل المزيد من اليسر في التبادل الثقافي، والعمل على تعميق أثره بين الجانبين.
ترجع بدايات فكرة إنشاء معاهد كونفوشيوس إلى عام 2002م عندما بدأت السُلطات الصينية في التفكير في إنشاء معهد يدعو إلى تدريس اللغة والثقافة الصينية في غيرها من البلدان، وفي عام 2004م تم الإعلان رسميًا عن إنشاء أول معهد كونفوشيوس في جمهورية كوريا. في الحقيقة، جاء تأسيس تلك المعاهد انطلاقًا من إدراك قادة الصين لأهمية اللغة والثقافة في خدمة المصالح الوطنية الصينية، وتعزيز قدرتها على أن تلعب دورًا رئيسيًا في العالم، حيث تعمل معاهد كونفوشيوس على دعم العديد من أهداف السياسة الخارجية للصين، كما جاء توسع وانتشار هذه المعاهد مُصاحبًا لما تشهده الصين من تطور غير مسبوق في الاقتصاد، وما يتبعه من زيادة التبادل التجاري والثقافي بينها وبين بقية العالم.
يُعد معهد كونفوشيوس إحدى أدوات الدبلوماسية العامة الصينية في الخارج، كذلك إحدى أدوات القوة الناعمة الصينية، ومن أبرز دوافع الدعوة إلى تدريس اللغة والثقافة الصينية هو الصعود الكبير الذي طرأ على مكانة ودور الصين على الصعيد العالمي، وفي الوقت الحاضر يوجد أكثر من 500 معهد كونفوشيوس، و1000 فصل كونفوشيوس من حول العالم، منها 61 معهدًا، و48 فصلًا في إفريقيا، أما في مصر فيوجد ثلاثة معاهد كونفوشيوس، أحدها في جامعة القاهرة، وقد تأسس في عام 2007م، والثاني في جامعة قناة السويس وتأسس عام 2008م، والثالث في جامعة عين شمس والذي تمت ترقيته من فصل إلى معهد في عام 2021م، وقام معهد كونفوشيوس بجامعة القاهرة بفتح فروع في العديد من الجامعات الأخرى، ومنها جامعة فاروس بالإسكندرية، وجامعة بنها، وجامعة الفيوم، إلى جانب فروع أخرى في العديد من المدارس الثانوية، والإعدادية، والابتدائية.
إذن، فالتعاون الصيني العربي من جهة، والصيني المصري من جهة أخرى، وبشكل أكثر خصوصية من يمتد أثره في العديد من المجالات، ولعل المجال الثقافي والمعرفي يكاد أن يكون هو المجال الأهم الذي لا يقل أهمية عن المجال الاقتصادي، أو التبادل التجاري؛ فالثقافة لها أكبر الأثر في تشكيل الأذهان، وهو ما من شأنه تسهيل التفاهم والتبادل في المجالات الأخرى المُختلفة، ولعل السبب في ذلك كان هو السبب الرئيس لمحاولة الصين التعاون في المجالات الفنية، وهو ما رأيناه مُؤخرًا في إصدار قناة سي جي تي إن العربية التابعة لمجموعة الصين للإعلام أغنية "احنا الحياة" التي يُشارك فيها المُغني المصري حمادة هلال- كمُمثل للعرب- والبلوجر الصينية عائشة الصينية، مما يؤكد أهمية التوافق الثقافي بين البلدين.