قتلة زهرة القمر
لو قلت إن المخرج الأمريكى «مارتن سكورسيزى» مخرج عبقرى فلا جديد.. ولكن يمكن أن نقول إنه مخرج عبقرى ذو ضمير حى، أو إنه واحد من أكثر المخرجين شجاعة فى تاريخ السينما، أو إنه أكثر الشجعان بساطة فى طرح ما يقول.. ولعل كل هذه المعانى تصارعت فى ذهنى وأنا أشاهد فيلمه الأخير «قتلة زهرة القمر».. وهو من إنتاج منصة أبل لهذا العام.. وهو مثل كل أفلام مخرجه فيلم مهم.. لكنه يكتسب أهمية استثنائية من بدء عرضه فى مصر بينما تجرى جريمة إبادة شعب غزة على يد إسرائيل.. إن الفيلم يعالج نفس القضية فى زمان ومكان آخرين.. إنه يناقش قسوة الرجل الأبيض المستعمر فى التعامل مع السكان الأصليين لأمريكا الذين تمت تسميتهم الهنود الحمر.. إن سكورسيزى لا يفعل شيئًا سوى أنه يحكى حكاية.. كما يحب دائمًا.. إنه يحكى لك قصة ببساطة وسهولة ويسر.. وبعد أن تنتهى ستدرك المعنى وستشعر بالألم من كل هذه القسوة.. وستصبح أكثر خبرة فى فرز مظاهر التحضر التى يتظاهر بها الإنسان الأبيض.. يعود سكورسيزى لعام ١٩٢٠ ليروى قصة حقيقية لقبيلة من الهنود الحمر تحمل اسم الأوساج.. يتم اكتشاف النفط فى أراضيها فيصبح أبناؤها من الأغنياء، ويجتذب هذا قطعانًا من المستعمرين البيض الذين يختلط بهم الأوساج ويتزوجون منهم قبل أن يدركوا أن هذا الاختلاط شبيه باختلاط الذئب بالحمل.. محور القصة هو رجل أعمال يهودى يدعى «هال» يلعب دوره روبرت دى نيرو.. إنه زعيم محلى ومؤثر يتظاهر بفعل الخير ومساعدة الآخرين، وهو يهودى الديانة بالمصادفة.. «أو بغير المصادفة».. وهو أيضًا نائب الشريف أو المأمور.. والأحداث تبدأ باستدعائه ابن شقيقته الوسيم والمعجب به.. بعدها تبدأ خطة مرتجلة ومرتبة أيضًا ليتزوج من فتاة من قبيلة الأوساج.. لديها مثل قومها عائدات مادية من استغلال النفط.. شيئًا فشيئًا نرى معالم الخطة.. للزوجة الهندية أم وأخوات.. سترثهم إذا ماتوا أو إذا تم قتلهم.. يتم تدبير سلسلة جرائم لقتل أخوات الزوجة المحبة لزوجها الأبيض والبريئة تمامًا، لأنها لا تملك خبث المتحضرين البيض ولا جشعهم للمال.. تدور سلسلة جرائم تضاف لخمس وعشرين جريمة قتل سابقة فى سياقات مشابهة «قتل الهنود لوراثة حقوقهم فى النفط».. الجرائم ليست سرًا.. وجميع البيض فى المنطقة يتواطأون حولها فيما يشبه تواطؤ المجتمع الدولى لإهدار حقوق الأمم المغلوبة.. والهنود قليلو الحيلة «كانت تتم معاملة الهندى وقتها على أنه فاقد الأهلية».. لكن الزوجة التى مات كل أفراد أسرتها تذهب لواشنطن وتشكو للرئيس.. هى بالطبع لا تشك فى أن زوجها اليهودى هو قاتل أسرتها ولا أن خاله هو العقل المدبر.. تتطور الأحداث فى اتجاه تحريض الزعيم الأبيض لابن شقيقته لقتل زوجته التى يحبها بحقنها بالإنسولين المسموم.. يصور سكورسيزى ببراعة لقاء البراءة بالإثم.. الزوجة المحبة بالزوج القاتل الذى يحبها هو أيضًا ولكن أقل من حبه للمال، يأتى محققون للمنطقة وتتكشف الحقيقة ويكشف لنا سكورسيزى ببراعة كيف يكون الكذب.. إن زعيم العصابة «هال» رجل أنيق.. إنه خفيض الصوت، مجامل، ناعم، يشارك الهنود أفراحهم، ويعزيهم فى مصائبهم، وهو مدعٍ.. إنه يقول بعد القبض عليه إنه طالما ساعد الهنود، وساهم فى تعريفهم بالحضارة!، وبنى لهم النوادى والمطاعم.. لكنه لا يقول إنه كان يحرض ويشرف على قتلهم.. إن كلامه شبيه بكلام الإسرائيليين عن توفير فرص عمل مربحة لأهل غزة مثلًا.. بعد القبض على القاتل اليهودى الأبيض نجده يملى مقالًا للنشر فى الصحف يقول فيه إنه رجل شريف، وإنه طالما خدم مجتمعه، وطالما خدم الهنود الحمر من «الأوساج» وإن ما يحدث ضده كذب وافتراء وتشويه!.. إنه كاذب من ملايين الكاذبين فى العالم، وقاتل يتخفى فى ثياب رجل مجتمع، وأوروبى ذهب إلى أمريكا ليتهم أهلها بالوحشية فى حين أنه هو الوحشى والقاتل والمتآمر والجشع.. فيلم يقول كل شىء دون أى مباشرة.. القصة التى وقعت فى ١٩٢٠ وكأنها تدور حاليًا، الأحداث التى وقعت فى أمريكا نسخة من التى تقع فى غزة.. إنها قصة قتل الرجال البيض للهنود المسالمين، قصة مسكوت عنها.. قصة أخفاها الأمريكيون داخل الأدراج حتى جاء مخرج شجاع مثل سكورسيزى ليحكيها للعالم.. ويقول ببساطة إن قتلة زهرة القمر فى أمريكا هم نفسهم قتلة الأطفال فى غزة.. وقتلة البراءة فى كل مكان.. كل الاحترام لهذا الفيلم العظيم الذى يكشف ويعرى ويفضح بمنتهى البساطة وكأنه لا يقول شيئًا على الإطلاق.