أين ذهبت الإنسانية؟
"الحرية".. تلك الكلمة التي كانت ولازالت وستظل الأذن تسمعها على مر الزمان، والألسن سترددها حتى نهاية الحياة، والروح ستنشدها حتى آخر رمق لاسيما وأن الحياة تحمل الكثير من الحروب التي تستهدف في المقام الأول سلب الحرية، والحرب لا تتعلق أو تنحصر في الحروب العسكرية والأسلحة، ولكنها تعني في الأساس معنى الصراع الذي يتأجج بداخل الإنسان، فالحرب قد تكون فكرية من الطراز الأول، وقد تكون نفسية مثل حرب الأعصاب، وربما تكون تنافسية إما على سلطة أو مال أو جاه، والهدف منها هو السيطرة والتحكم، وقد تكون عاطفية، فكم من مرة سمعنا عن الخلافات والصراعات التي تستهدف الوصول إلى القلوب، وأشدهم على الإطلاق الحرب مع النفس، وهذه تأخذ منحنيين، بمعنى الصراع الإيجابي الذي يستهدف الوصول بصاحبه إلى بر الأمان، وتقويمه من أجل الوصول إلى مرحلة التصالح مع النفس، وقد يكون صراعًًا سلبيًا، لا يلوي على شيء، فهو يستهدف الصراع من أجل الصراع، وكأن صاحبه يستمتع بالتعايش في حالة تشتت بين العقل والوجدان، وهذا عادة ما يؤول بصاحبه إلى الجنون المسلكي أو العدوان اللاواعي، والأسوأ من ذلك أن يصل إلى الأمرين معًا، فهنا يتحول إلى ديكتاتور، لا قلب له ولا رحمة، ولا يعرف للإنسانية معنى أو مكان، فكل الأشياء تتساوى لديه، وكل المعاني تموت في نظره، وتسود الأنا عنده لدرجة أنها لا تسمح له بأن يرى ما سواها، فهنا وبلا شك ينمو الوحش بداخله، ويترعرع تدريجيًا، حتى يتحول إلى مارد قاسٍ يفعل ما يشاء وقتما يشاء، دون أي اعتبار للمشاعر والأخلاق والدين.
وبالقطع هذه الكلمات لا تنحصر في الأشخاص فقط، ولكنها تمتد إلى الكيانات والشخصيات الاعتبارية والدول، فهل ننكر أن ما تُمارسه بعض الدول ضد بعضها البعض هو ترجمة فعلية للوحشية التي ترسخت بداخلها، فبالفعل يتم الخروج على كل الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية، والأهم القيم والأخلاق الإنسانية، ومبادئ الأديان السماوية، فهل من الرحمة أن نستبيح القتل والدمار والخراب والهدم والغدر، لتحليل أي مبادئ أو معتقدات سياسية، وهل الحرب التي وضعت قواعدها وأصولها القوانين والاتفاقيات الدولية، هي ما يحدث الآن على الساحات القتالية، فما يحدث لا يمكن أن يُطلق عليه كلمة "حرب"، لأن الحرب رغم كل ما تحمله من عُنف وقسوة وخطط وفكر، إلا أنها لا يجب أن تخرج عن القانون، فلها قواعدها الراسخة التي يجب أن تلتزم بها الدول في خصومتها، حتى لا تتحول الحياة إلى غابة.
ولكن للأسف الشديد، ما تشهده الساحة الدولية في هذه الأيام يؤكد أن هناك جريمة إنسانية بكل المقاييس يتم ارتكابها ضد أهالي "غزة"، فكل حقوق الإنسان يتم انتهاكها وبشكل صارخ وصريح ومعلن، فلم تحترم أي مواثيق أو اتفاقيات أو معاهدات دولية، حتى المواثيق الإنسانية انتهكت بوحشية شديدة، فما يحدث ليس بحرب، ولكنه مجزرة وحشية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فليس هناك احترام لمرضى، فلقد تم ضرب وهدم المستشفيات بمن فيها من مرضى، ولم يتم احترام العرض والبراءة، فالنساء والأطفال يذبحن ويقتلن في عرض الطرقات بدون أدنى رحمة أو شفقه، والأب يودع ابنه بدموع الحسرة، وهو عبارة عن جثة مقطعة، محاولا لملمة أشلائها بلا جدوى، حتى يقوم بتوديعها ودفنها، والخوف والرعب أصبح يملأ أجواء المدينة، والدخان الأسود عبأ أنفاسها، ولون الدم طغى على لون السحب، والموت والقتل أصبحا هما المصير اليومى بل اللحظى والمحتوم لكل من يعيش على أرض غزة، والأبشع من كل هذا أن كل تلك الجرائم ثرتكب في وضح النهار، وبمنتهى الجرأة والوحشية، وكأنها سلوكيات عادية وطبيعية، فهي معلنة على كل القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، والصحف الورقية، وكأنها مدعاة للفخر والتباهي.
فهل يمكن أن نتصور أن تتحول الجريمة إلى سلوكيات عادية وطبيعية، دون إعمال أي اعتبار إلى القوانين والمواثيق الدولية، أو حتى القيم والمبادئ الأخلاقية، فبالرغم من أن الحديث عن اغتصاب الأراضي يحتاج إلى العديد من المجلدات التي ناقشت هذه الجريمة، والنماذج عديدة على هذا السلوك الذي كان ولا يزال يتبع من بدء الخليقة، ولكن إن كان هذا النوع من الاغتصاب لا تتقبله الضمائر الإنسانية، لأن الأرض هي الوطن والجدور والأساس، فما بالنا واغتصاب الرحمة والإحساس بالأمان والروح والسكينة، فكل هذا يرتكب بلا أدنى رحمة، وبلا محاولة للتفكير في أن هذه السلوكيات تنبئ ببداية مجازر دولية، ستحول حياة الشعوب إلى غابات تستشري فيها الوحشية، وتنتهك فيها الإنسانية، وترسخ معاني ستتوارثها الأجيال، تقوم على أساس انتصار القوة الوحشية على مبادئ الحق والعدل والإنسانية، وإلى أين ستؤول حياة شعوب أصبح الدمار يخيم على أفكارهم، ويحطم تاريخهم، ليسود العنف حياتهم، وتترسخ الوحشية على جدران مستقبلهم.