رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نحيب الكمنجات فى وادى العبرات

ونحن نتابع مشاهد سقوط ضحايا حروب الصراعات المجنونة بين الدول، وصرخات وآهات أهالي الضحايا، ونقل أحداثها عبر كل وسائط الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي، يتكرر سؤال الناس في كل الدنيا: هل بات مشعلو حرائق تلك الحروب بلا قلب يحس ويتفاعل، وبلا وجدان يغضب ويشعر، وبلا عقل يعيد أصحابه إلى الرشد والحكمة؟.
يا لها من مشاهد بشعة  تلك التي تنقلها شاشات التليفزيون من قطاع غزة المحاصر لقتل الأطفال والنساء وتدمير البيوت على ساكنيها ولا تشفع صرخات المساكين تحت الأنقاض أو انتشار جثث الناس في الشوارع، ولا ذنب لهؤلاءأو هؤلاء إلا أن ظروفهم قد أتت بهم بالصدفة في مواقع القصف!!
ألم يسأل تجار الحروب والمنتفعون بإشعالها أنفسهم: كيف لا تنجح الجهود الدولية في إيقاف نزف الدماء بشكل سريع وإنساني؟.. ألم يشاهدوا أطفال غزة وهم يفرون بأقرانهم لإنقاذهم بشكل عاجل، وهل يقدرون ويعون خطورة تكرار عرض مثل تلك المشاهد الدموية في تشكيل حالة من التعود المرضية؟.
ألم يفهم من باتوا يكرهون حالة السلام في أزمنة ضياع الحقوق وإهدار الكرامة بفعل أصحاب الفكر الاستعماري أو الممارسات الإرهابية أن الدخول في معارك لن تنتهي بفائز وخاسر، فالكل خاسر مع أول سقوط ضحايا على الأرض؟!..
وأذكر بالمناسبة بعض ما رصدته كتب التاريخ حول دموع الجبارين دون أي قدرة على حجبها، فتذكر لنا أوراق سير حياتهم ما كُتب مثلًا حول تحجر الدموع في عيني "نابليون بونابرت" وهو يقف مودعًا أهرامات مصر التي عشقها وتاه في إعجاز وجودها وخلودها، وما قيل عن لحظة الوداع الأخيرة التي عندها عرفت الدموع سبيلها إلى حدقتي هتلر عندما عزم على الانتحار مع معشوقته الجميلة "إيفا براون" فكانت دموع الهزيمة بمثابة اعتراف مُعلن بالانكسار، ونتذكر صورة "هلموت كول" المستشار الألماني، والتي مازالت ماثلة في الذاكرة عندما بكى أمام كل وسائط الميديا ورأى العالم حالة الحزن المؤلمة التي كان عليها بعد هزيمة الحزب المسيحي في الانتخابات والذي كان يترأسه في تسعينيات القرن الماضي..
ولون آخر من الدموع الفضائحية رأيناها في مقلتي كلينتون بعد فضيحته في قضية عشيقته "مونيكا" وهو يعتذر لشعبه عن ارتكابه لتلك الفضيحة الامريكاني، وهل ننسى عبرات صدام حسين إبان مشهد محاكمته لبعض أتباعه في مطلع سبعينات القرن الماضي واتهامه إياهم بالخيانة والتأمر، وبات يكفكف دموعه في ترخص سياسي بعبرات إبليس؟!
في المقابل، سالت دموع المناصل الزعيم "سعد زغلول" عندما زار "مكرم عبيد" و"فتح الله             بركات" وهما مريضان، وهو الذي لم تسل دمعة واحدة من عينيه عندما قرر الإنجليز نفيه وحيدًا وهو شيخ كبير إلى "سيشل"، ولكننا لابد أن نشير هنا إلى دمعة مؤثرة جدًا في عيون سعد "ففي أثناء الثورة الوطنية التي بدأت سنة 1919" وما بعدها مرت جنازة إحدى ضحايا الحرية أمام بيت الأمة ـ أي بيت سعد زغلول ـ فخف سعد إلى السير في طليعة المشيعين وقد بللت دموعه وجهه الطيب.. ويوم وفاة الزعيم، يحكي الصحفي الوحيد الموجود في بيت الأمة "كريم ثابت" عن دمعة مؤثرة أخرى في كتاب له "خشيت على فخري بك عبدالنور من شدة بكائه ونحيبه نظرًا لبدانة جسمه، وكنت كلما أبصرت به يتقلب على مقعده وهو ينتحب وقد صعد الدم إلى وجهه حاولت عبثًا أن أهدئ من روعه..".
لقد بكى باراك أوباما أمام زوجته وهما يغادران البيت الأبيض، ومرة واحدة لم يبكِ البيت الأبيض على البيوت المحترقة وأهلها من بغداد إلى حلب، ومنها إلى عواصم عربية أخرى عاشت الخريف العربي قبل أن تنعم بالربيع الموعود الكاذب!! 
وإلى الآن لم تجف دموع الخنساء، فدموعها على وجوه العظيمات أمهات الشهداء والمصابين من ضحايا جرائم الإرهاب الأسود ومعاناة التعامل مع خطابات دينية وثقافية كان لها أن تزول منذ أزمان..
لعل من أعذب ما كتبه محمود درويش: "الكمنجات تبكي على الأندلس"، وشعراء الموسيقى يقولون إن للناي دموعًا، وإن العود يبكي ولكنه يلمّ دموعه في تجويف بطنه الخشبي..
مقالي ليس دعوة للنحيب والبكاء والعويل، بل هو رسالة إلى هؤلاء الذين مازالوا لا يقدرون الأثمان التي تدفعها الشعوب في أزمنة النزال الصعبة وجولات الصراعات المحمومة، وعناء أيام ظلم الإنسان لأخيه الإنسان عند السعي لنيل العدل المستحق والتنعم بانتشار قيم الخير والجمال والاستقلال الإنساني.. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.