أحمد فؤاد سليم: شغفى بالتمثيل بدأ فى حصة التاريخ.. وأمى كانت أول جمهورى
أحمد فؤاد سليم.. فنان من طراز خاص، لديه تذكرة لدخول قلب الجماهير بمجرد ظهوره على الشاشة.. فنان مدخله الصدق، وجسره للقلوب شفافيته.. روحه منفتحة على الجمال، وطاقة حب لا نهائية تغلف علاقته بالفن، وبزملائه وبالمسرح، والسينما والدراما.
كتب الفنان أحمد فؤاد سليم تاريخًا كبيرًا فى المسرح، وعمل مع كبار المخرجين، ولا ينسى جمهور المسرح دوره اللامع فى «سنوحى»، ودوره فى «مشعلو الحرائق» مع عونى كرومى، وأدواره مع انتصار عبدالفتاح فى «أطياف المولوية»، مثلما لا ينسى أحد أدواره فى السنيما مع يوسف شاهين فى «المهاجر» و«المصير»، وكذلك أدوار الأب التى أداها فى الدراما التليفزيونية، والتى أكسبته قاعدة جماهيرية عريضة، ومكانة خاصة فى قلوب الجماهير.
وقد كرّم المهرجان القومى للمسرح مؤخرًا الفنان أحمد فؤاد سليم، وأجرى الكاتب الكبير أسامة الرحيمى حوارًا مطولًا معه، يوثق رحلته وتاريخه الفنى، نشر فى كتاب صدر بمناسبة تكريمه، و«الدستور» تنشر جزءًا من هذا الحوار المطول، الذى يلقى الضوء على مسيرة أحمد فؤاد سليم المسرحية وآرائه فى الفن والمسرح.
■ فى حياتك الفنية محطات رئيسية.. فكيف كانت البداية؟
- مرحلة الهواية وشغفى بالتشخيص المسرحى كانت البداية، فمنذ الصغر فى المرحلة الابتدائية كان لدينا مدرس تاريخ شغوف بالتمثيل، فكان يأتى إلينا فى حصة التاريخ ومعه أدوات ماكياج وبعض الاكسسوارات والملابس التى تناسب الشخصية التاريخية التى سيحكى لنا عنها فى الحصة!! ثم يتقمص الشخصية ويبدأ الشرح، ومن هنا بدأ شغفى بالتاريخ والتشخيص معًا، ففى المدرسة بدأت ممارسة هوايتى فى التمثيل المسرحى.
■ ومتى كانت أول إطلالة لك على الجمهور كممثل؟
- أول جمهور حقيقى لى كانت أمى، رحمها الله، والمسرح كان صالة البيت، فقد قمت بتقليد مدرس التاريخ لها، أردت أن أفعل مثله بتقمص الشخصيات التاريخية، وأبدت إعجابها بى، وشجعتنى بحماس، فشعرت بأن التشخيص فعل جميل، بدليل مساعدة أمى لى لتجويد أدائى.
ثم انتقلت بعد ذلك إلى مراكز الشباب، والساحات الشعبية، والمراكز الدينية مثل «الشبان المسلمين» و«المركز الكاثوليكى» وغيرهما، وحصلت وقتها على جوائز معتبرة من نشاطى المسرحى فى مرحلة الهواية.
وحين كبرت قليلًا، كنت أزور مراكز الشباب، وكانت عروض الساحات الشعبية بسيطة وحميمة، ومنتشرة جدًا وقتها، وتعرفت على فرق التمثيل لأول مرة فى تلك الأماكن التى كانت تشارك البيت والمدرسة فى تشجيع هواياتنا، وفى تلك الحدود كان الممثلون معروفين لمختلف الأندية والساحات الشعبية، فهناك أحمد فتحى يمثل فى حلمية الزيتون، وفلان يمثل فى سراى القبة، وطلبوا منى مشاركتهم فى مسرحية ذات مرة، وكانت أول مرة أقف أمام جمهور، وأتذكر التوتر والفرح فى ذلك اليوم، ويبدو أننى أعجبتهم فشاركت معهم فى مسرحيات أخرى لاحقة، وكنت أتأخر خارج البيت أحيانًا، ويقدرون ذلك لأننى أشارك فى مسرحية، فازداد تعلقى بالفن.
■ كيف انتقلت للاحتراف؟
- ازداد شغفى بهذه الهواية يومًا بعد يوم، فقرأت سلسلة «المسرح العالمى»، وكثيرًا من كتب الشعر، وروايات محلية وعالمية، وتعلمت الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافى، ومارست رياضات مختلفة، واستمعت إلى المنشدين فى الموالد وهم يتغنون بسيرة الأبطال «أبوزيد الهلالى»، و«عنترة بن شداد»، و«أدهم الشرقاوى»، وغيرهم، كما ارتدت دور السينما والمسرح.
وأثناء أدائى الخدمة العسكرية قررت الالتحاق بالمعهد العالى للفنون المسرحية بعد انتهاء فترة تجنيدى. وبالفعل دخلت المعهد عام ١٩٧٤، وهى نفس السنة التى انتهيت فيها من خدمتى العسكرية، ومن هنا بدأت مرحلة الاحتراف كممثل مسرحى.
■ لقاؤك بالمخرج الكبير «يوسف شاهين» كيف تم وإلى أى مدى كان له تأثير على مسيرتك الفنية؟
- أعتبره المحطة الرئيسية فيها، وتحديدًا فيلمى «المهاجر» و«المصير»، كل ما قبل شاهين أحسبه «لافتة بدون محطة» فلا شىء يساعدنى على التحقق، وكل المتاح دون طموحى بكثير.
وكنت قد ذهبت لمشاهدة مسرحية «لعبة الموت» للأستاذ «توفيق الحكيم»، وبطولة «خالد النبوى»، وإخراج «أبوبكر خالد»، الله يرحمه، وكان «يوسف شاهين» هناك فى الليلة نفسها، ذهب ليشاهد خالد النبوى، وجلس بجانبى بالصدفة فى مسرح «الغرفة» بالدور الثانى فى المسرح القومى، وبعد المسرحية كنا نازلين على السلم، فأشار نحوى خالد النبوى وقال ليوسف شاهين: ده أحمد فؤاد سليم اللى كلمتك عنه.
- بص لى وقال: إنت بتطلع فى إيه؟ فى البوتاجاز ولا فى التليفزيون ولا فى إيه بالضبط؟
- قلت له: على فكرة إنت مبتتفرجش كويس ودى حاجة مش كويسة لمخرج كبير مثلك، إنت يا أستاذ مخرج عظيم ويشار إليك بالبنان، لكن لازم تتفرج عشان تعرف الناس. وعلى فكرة يا أستاذ شخصية «قناوى» اللى إنت عملتها فى «باب الحديد» لم تعجبنى، لأنك كنت من جواك خواجة وإنت بتؤديها!!
- قال: بتقول إيه يا حمار؟
- قلت له: قناوى كان من الخارج شكل قناوى، لكن من جوّه خواجة!!
- فقال لى: إنت رايح فين؟
وذهبنا إلى مكتبه، وقدم لنا «مقلوبة» كان قد طبخها بنفسه قبل ذهابه إلى المسرح، وكنت سأسافر للسعودية للعمل بالمسرح المدرسى فعرض علىّ دور «جادر»، الأخ الأكبر للبطل فى الفيلم الذى كان يعد له وقتها «المهاجر»، فأخبرته بأنى مسافر إلى السعودية لكن هاجى لك فورًا لحظة ما تقولى تعالى، فقال: وهتسيب الدولارات والريالات والحاجات دى؟ قلت: أسيبها وآجى.
وفعلًا بمجرد أن أخبرنى ابنى بأن «يوسف شاهين اتصل بيك وعايزينك ترجع فورًا»، وكان فاضل لى عشرة أيام وأنزل أجازتى، نزلت فجر يوم خميس، ولم أنم ليلتها حتى قابلت يوسف شاهين، وعملت معه فيلم «المهاجر»، وبعده كان «المصير»، ودى كانت بداية رحلتى مع «يوسف شاهين».
■ ما الفروق بين السينما والمسرح والدراما، هل هى فى الأداء فقط؟
- وإنت قدام الجمهور مباشرة على خشبة المسرح غير الاستديو والكاميرا، ربنا سبحانه وتعالى عامل فرق حتى فى أجناس الثمار، فمثلًا الموالح، تجد البرتقال والليمون واليوسفى، وكذلك فى الفن، هناك فرق بين أداء المسرح، والإذاعة، والسينما، والتليفزيون، فلكل جنس من الفنون أداء يختلف عن الآخر.
■ وما علاقتك بالنصوص، كيف تقرأها، ومتى تقرر قبول شخصية أو رفضها؟
- حاولت كثيرًا فهم القواعد التى تُبنى عليها النصوص، وفى المفارقة فى الشخصيات نفسها، فأنا أعلم عن نفسى ولا أعلم عن نفسى بنفس الدرجة، أنا كريم، والآخر يرانى بخيلًا، ربما أتظاهر بالكرم وهكذا، فالصراع أو التفاعل مع الشخصيات يأتى من المفارقة، وهنا يكمن الفعل الدرامى، أو عقدة العمل الفنى. ويجب الانتباه لبناء الشخصية والأشياء والهدف من مكوناتها ودورها، فكل عمل له هدف.
العمل الفنى يجب أن تكون له قوانينه، ولا يجب أن يكون ضد قيم الواقع، بل يعالج الخلل الموجود فى الواقع من أجل تغييره، وهذا من أهداف الفن، خاصة العلاقات الموجودة بين الشخصيات التى تصنع الفعل الدرامى.
وكذلك الحوار، خاصة أنه أصبح من الآفات الموجودة أيضًا. مبالغات ومط وثرثرة.. مبالغات، وتضييع وقت. المشاهد يقضى معك بعض الوقت ليستفيد منك، فلماذا تبدد طاقته وتستهلك فلوسه وحياته بلا طائل، ونحوله إلى شخص مستهتر.. لماذا؟
إذا توفرت هذه الشروط أدخل على الشخصية بارتياح، وهذا أهم أسباب قبولى أى دور، فاجتهاد الممثل من عناصر نجاح العمل الفنى، وأى شخصية غير منطقية وفيها مبالغات أو ليست بالنضج الكافى أو عديمة الفائدة فى العمل أرفضها باطمئنان.
■ معروف عنك إيمانك بالروحانيات.. فهل يحتاج الممثل إلى ذلك لتجاوز تعقيدات الواقع، وتفادى المشاكل ليصفو من الداخل ويتمكن من التشخيص باطمئنان؟
- هذا حقيقى، فأى فنان يعرف قيمة دوره، وخطورة ما يقدمه للناس، سلبًا وإيجابًا، يجب أن يُصفّى روحه وقلبه من أى منغصات لأبعد مدى، لأن الشخصيات التى يؤديها نفسها تحتاج لجهده النفسى كله، والعضلى أيضًا إن شئت الدقّة. وهذا الصفاء الروحى تعينك عليه الصوفية، أو الأحوال التى تشبه الصوفية، وكلها تصب فى منطقة واحدة فى نهاية الأمر.
■ كيف يوظف الممثل ويستفيد من الطاقة الجُوّانية فى أداء أدواره؟
- فى عرض «مشعلو الحرائق» مع المخرج الكبير عونى كرومى، كانت المرة الأولى التى أعرف «يعنى إيه طاقة»!!. وكنت أجرب استخدامها فى التمثيل لأول مرة أيضًا. فمفهوم الطاقة هذا مفهوم جُوّانى، وهو القدرة على إيصال ما أريده للآخر بكلام بسيط، أو دون كلام أحيانًا، وهذه كانت مرحلة مهمة جدًا فى علاقتى بالمسرح. فتلك القدرات الكامنة بداخل الإنسان ماذا لو استخدمها الممثل بمهارة أعلى من الحالات العادية فى التواصل مع الجمهور.
■ ما الفارق بنظرك بين الخيال والواقع فى التمثيل؟ وكيف ترى التداخل بينهما؟
- أغلب الناس حين يرون عملًا يقولون عنه: «كأننا عشناه، أو يُعبر عن حياتنا تمامًا» أو أنه يطابق الواقع بشكل كبير، لأنهم يرون أن الفن يكون أفضل كلما كان مطابقًا للواقع.
والحقيقة أن الفن هو ما يجب أن يكون عليه الواقع، وليس الواقع كما يعيشه الناس.
فالخيال حالة خاصة برؤية الفنان، وهو يتخيل شيئًا، أو يرى شيئًا أفضل مما يحدث فى الواقع، فهو لا يقدم مفردات صورة واقعية، أمّا الواقع فهو ما يعيشه الناس. فمن أين تأتى المقاربة بين الواقع والخيال لدى الناس؟، المتفرج غالبًا يُمثل مع أحد أبطال العمل الفنى، ربما لأنه يشعر بأن الشخصية التى يقدمها فيها شىء منه، فيركّز معه بلا وعى، ومن هنا يشعر بأن الفن يعبّر عنه.
وهذا يحدث فى المسرح أحيانًا، والمتفرج قد يتوحد مع أقرب بطل له فى العمل، ويشوف أفعاله هو أو أحواله فى مواقف معينة من العرض المسرحى. ويكتشف جوانب من نفسه، فيما يشبه التطهر من مشاكل عانى منها فى حياته، لتشابه شىء فى المسرحية مع مواقف عاشها فى حياته الشخصية، وفوجئ مثلًا باختلاف سلوك الممثل عن سلوكه فى حياته، ربما للأفضل، فيتوحد بعقله ووجدانه وكل أحاسيسه مع البطل لعله يتدارك بالفن ما فاته فى واقعه.
■ أيعنى ذلك أيضًا أنك مؤمن بأن للفن دورًا فى بناء المجتمعات والإنسان؟
- بكل تأكيد، الفن شريك فى بناء المجتمعات والإنسان عمومًا، وليس مجرد البناء، بل التطوير والارتقاء والتثوير إن شئت. فمثلًا الألمان بعد الحرب العالمية، وكانت بلادهم محطمة بعد تجربة هتلر الإجرامية فى تخريب العالم، استخدموا كل الفنون فى النهوض مجددًا، وبناء بلادهم، وأنفسهم، بالسينما والمسرح وعلم النفس والاجتماع، ومختلف العلوم أيضًا. فالفن على طول الخط منذ ابتدعه البشر ضد التطرف، ومُعادٍ لكل القيم الفاسدة.
وسأضرب لك مثلًا وسأذكر لك حكايتى مع مسرحية «جواز على ورقة طلاق»، التى أخرجها «منصور مهدى»، الله يرحمه، وهى للكاتب الراحل الكبير «ألفريد فرج»، ويرى البعض أنه تأثر فى كتابتها بـ«الليلة نرتجل» لـ«برانديللو»، ففى كلتيهما امرأة من العامة تتزوج من برجوازى يعانى من عدم التوافق الاجتماعى، ولا يوفر فرصة للحطّ من شأن زوجته طوال الوقت أمام الجميع. وينتصر كلا الكاتبين للفن على الحياة وفى المسرحيتين، ولكن «ألفريد فرج» كان من الذكاء بمكان بحيث لجأ لتمصير الفكرة، بجعلها بين فقراء ثورة ١٩٥٢، وبرجوازية الإقطاع قبلها، أو بين «مراد»، ابن العائلة الثرية عبر أجيال، وزينب بنت الفقراء كابرًا عن كابر، وعرض للصراع الطبقى الذى يبدو أعمق كثيرًا فى المجتمع المصرى من محاولات حلحلته، ويحتاج لمدد أطول كثيرًا.
فالصراع الطبقى فى «جواز على ورقة طلاق» أيديولوجى بشكل واضح، لكن من زاوية إنسانية واجتماعية، وتتوارى السياسة خلفهما، ولم يمكن الزوجين من تجاوز الفرق الاجتماعى، سواء كان لنقص فى وعيهما بالمشكلة، أو لضعف فى عزيمتهما، أو لأن تعقيدات الواقع وتشابكاته قبل وبعد الثورة كانت أقوى وأوسع منهما بكثير.
ولعلمك هذا النص من العروض القليلة التى تنطوى على خلود فى الفكرة، فى المستوى الفكرى والثقافى والاجتماعى والإنسانى، ويمكن إعادة طرحها من وقت لآخر دون أن تعانى أى تقادم، خاصة أن أزمات المجتمع المرتبطة بالصراع الطبقى تتفاقم بمرور الوقت كما نرى.
■ تتحدث كثيرًا عن «كامل حلمى» وتأثيره عليك، وقلت أكثر من مرة إنه كان يضيف إليك أبعادًا مفيدة لتصورك فى تقديم الشخصية؟
- كامل حلمى، رحمه الله، أفادنى كثيرًا بنقاشاته معى طوال الوقت، وكثيرًا ما اختلفنا، لكنه أحيانًا كان يضع يده على نقاط عميقة ونافذة فى الشخصيات، ويجعلنى أراها بوضوح تام كأنها من لحم ودم، وأستحضر روحها تمامًا، وأتمكن من أدائها بفضل تلك النقاط التى لفتنى إليها.
وهو كان يتحدث بجمال عن «قدرات الفنان الذهنية والفكرية وفهمه الأعماق النفسية للشخصية، واستخدام الممثل موهبته بشكل خفى فى أداء الدور، ويتماهى فيها حتى ينسى الجمهور شخص الممثل نفسه، ويتفاعل بحماس عفوى مع الشخصية على الخشبة»، ورؤيته وافقت رؤيتى لحد كبير، لذا كانت مناقشته ثراءً كبيرًا لفهمى للأدوار، ولم يكن يتكلم فى السياسة أبدًا، وظل مقتنعًا بأن المسرح قادر على تفسير ما يجرى، ويمكنه تغييره.
■ كان لك موقف شهير مع المخرج الأوكرانى تيمور أباشيدزى حين شعرت بأنه يمرر عبر عرض «سنوحى» فكرة صهيونية عن حق العودة؟
- أتذكر العرض وتلك المرحلة بوضوح شديد، لأنها كانت بدايتى فى التحول من الأداء الكلاسيكى الذى كان سائدًا وقتها، قبل التسعينيات.
و«سنوحى» من مسرحيات «المونودراما»، ومخرج ذلك العرض ومؤلفه هو «تيمور أباشيدزى» وهو أوكرانى من جورجيا، والعرض باختصار يدور حول الطبيب الشاعر «سنوحى»، الذى كان يعيش فى قصر الملك «أمنمحات الأول» ملك مصر حينها، والذى كتب قصيدة غزل فى جمال الملكة وحسنها، وقت خروج الملك لإحدى الغزوات، وانتشرت القصيدة بين المصريين كالنار فى الهشيم، فخاف «سنوحى» على نفسه وحياته، فأخذ «سنوحى» متاعه وهاجر إلى خارج البلاد بلا عودة. وفى كل بلد كان يحط فيه كان يتزوج منه ويبنى بيتًا وأسرة كبيرة ويصنع دولة. وهكذا أسس عدّة أسر، وعدة دول فى كل مكان استقر فيه لفترة.
لكن، بمرور الزمن، وكبره فى السن، غلبه الحنين إلى مصر، وأراد العودة ليدفن فيها بعد مماته، فبعث رسالة إلى الملك يرجوه العفو والغفران، ورد عليه الملك بأنه سيبنى له قبرًا عظيمًا مثل الأهرامات، وتمثالًا ومسلة، ويعتبره من الأبطال الذين صنعوا أمجادًا ودولًا تضاف إلى مملكة مصر. نبهنى صديقى كامل حلمى إلى غموض رسالة المخرج، وحين عرفت أن تيمور أوكرانى صهيونى بدأت أعترض على المضمون وطريقة الأداء؛ لأنى أريد أن أُشخّص «سنوحى» الشاعر والطبيب، وهو يريد منى أن أُشخّص بلطجيًا عنيفًا. واختلفنا حول طريقة أداء الشخصية، إلى أن نطق دون وعى منه: «أريده مثل موسى، يلكز فيقتل». فقررت أن أتحداه، وأن أقدم العرض بمفهومى لشخصية «سنوحى» (الطبيب الشاعر)، وليس البلطجى، وأن الذى سيعود إلى وطنه هو «سنوحى» وليس «موسى». وهذه هى المرة الوحيدة التى لم ألتزم فيها بتوجيهات المخرج فى التشخيص.
ما أهم ما خرجت به من تجربة فيلم «المهاجر»؟
- فى أول شُوت بأول مشهد خلاَّنى أعيد كلامى ٢٠ مرة، فما إن نطقت أول جملة حتى قال لى يوسف شاهين: انزل.. انزل. قلت له: أنزل إيه؟ أنا بمثل. فقال لى ثانية: انزل انزل، قلت له: أنزل إيه؟ قعدت أعيد ٢٠ مرة، وفى الآخر راح جايب ساق نبات القمح وقال لى: حط دى فى بقّك زى عود الكبريت. واتكلم كأنك تقرأ قراءة رشيدة، فقرأت كما يريد، فقال لى: دا التمثيل. وقال لى: إنت ممثل مفضوح، وجهك بيقول كل حاجة، فلما تمثل جنب ده بتبقى زيادة؟ «أوفر آكت».