رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. محمد الباز يكتب: تحية حقيقية للرجال.. كيف استخدم السادات هيكل فى خطة الخداع؟

الدكتور محمد الباز
الدكتور محمد الباز رئيس مجلسي إدارة وتحرير جريدة الدستور

فى ١٢ مارس ١٩٧١، وعلى صفحات جريدة الأهرام وفى زاويته الأسبوعية قرأ المصريون، شعبًا وجيشًا، مقال الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل «تحية إلى الرجال». 

كان عنوان المقال خادعًا ومخادعًا، كالهدف منه تمامًا، ولا يخفى على أحد أن المقال أغضب الجميع، بل أشعل ثورة من الغضب فى قلوب هؤلاء الذين كانوا يعسكرون على الجبهة استعدادًا لمعركة تحرير الأرض واسترداد الكرامة. 

بدأ هيكل مقاله بمخاطبة المقاتلين. 

قال لهم: لقد كان لا بد من وقفة بالتحية أمام الرجال، الذين قد يضع التاريخ فى أيديهم ومع أى لحظة مسئولية واجب القتال من أجل التحرير. 

وقال: لا بد اليوم من وقفة بالتحية أمام هؤلاء، الذين يحملون الآن أغلى أمانة فى تاريخ مصر، هؤلاء الذين صدرت إليهم الأوامر ليكونوا على استعداد دائم، يصل النهار بالليل والليل بالنهار تحسبًا للحظة قد تجىء فى أى وقت. 

وقال: هؤلاء الذين سوف ينطلقون مع عواصف النار والدخان والرعود الداوية والبراكين الهادرة على الأرض، والصواعق الطائرة فى السماء، هؤلاء العاملون فى صمت، المقتحمون فى جسارة، المضحون فى جلل، الزاحفون برغم كل شىء إلى هدف يتحتم بلوغه، لأن أمن مصر وقدر مصر ومستقبل مصر معلقة به، وأمن مصر وقدرها ومستقبلها هى نفسها أمن وقدر ومستقبل أمة بأسرها تعيش نقطة فاصلة فى تاريخها. 

يحدد هيكل شكل التحية التى يجب أن توجه للرجال، فيقول: هؤلاء الرجال على جبهة القتال المصرية لا تكفى لتحيتهم اليوم عيون القصائد من دواوين الحماسة، ولا تنصفهم منابر الخطابة مهما اهتزت وارتجت عاطفة وانفعالًا، شىء واحد قد يكفى فى ظنى وقد يفى، وهو أن يكون شعبهم، وأن تكون أمتهم، على عِلم وبينة بالصورة العامة التى سوف يمارسون فيها دورهم الوطنى والقومى، ذلك أنه بالقياس إلى حجم المهمة وظروفها تبدو قيمة الجهد وتكاليفه. 

حتى الآن يمكن التعامل مع مقال هيكل على أنه كان شحنة معنوية دافقة ومتدفقة يصبها فى شرايين المقاتلين لتجهيزهم إلى المهمة المقدسة التى تنتظرهم، لكنه بعد ذلك أتى على ما اعتبره البعض تكسيرًا لمجاديف الرجال، وتكسيرًا لإرادتهم، وتعجيزًا لقدراتهم. 

بدأ هيكل فى شرح تفصيلى للتحديات التى تقف أمام الجيش المصرى، فتحدث عن المانع المائى والكثبان الرملية على شاطئ القناة الشرقى، ومنطقة الرمال المفتوحة ومناطق المضايق نفسها والصحراء المكشوفة. 

وصل إلى يقين البعض أن هيكل يقول للرجال، الذين أراد تحيتهم، إنهم لن يستطيعوا أن يعبروا، وإن إسرائيل أعدت ما لا يمكن اجتيازه، بل وصل الأمر إلى اعتبار البعض مقال هيكل وجهًا من وجوه الدعاية الإسرائيلية لقوتها الأسطورية التى لا تُقهر. 

كان من المفروض أن تلتقط الصحافة المصرية الفكرة التى أراد هيكل تمريرها، فرسالته كانت لإسرائيل لأن تطمئن وتسترخى تمامًا، فليس معقولًا أن يفكر الجيش المصرى فى الانتحار، ويُقبل على مغامرة الحرب مع مَنْ يملكون كل هذه القوة، كان يريد تحييد إسرائيل بينما يستعد الجيش المصرى للانقضاض، وهو ما كان يعرفه هيكل بحكم قربه من الرئيس السادات، الذى كان يعكف على خطة الخداع، وليس مستبعدًا لدىّ أن تكون فكرة مقال «تحية إلى الرجال» نفسها من عند الرئيس السادات، وبوحى منه. 

أراد هيكل، فيما أعتقد أيضًا، أن تصل رسالة خاصة إلى الشعب المصرى، الذى كان يتعجل الحرب ويضغط من أجل إعلانها اليوم وليس غدًا، بأن يتمهل قليلًا، ويمنح الجيش الفرصة كاملة لأن يستعد ويتدرب ويجهز سلاحه، لأن التحديات أمامه أكبر وأعقد من أن يتصورها أحد، وعلى هذا الشعب أن يصبر، صبر الثقة فى كفاءة رجاله المقاتلين. 

أمسكت جريدة «الجمهورية» برقية الأستاذ هيكل، وكتب عبدالهادى ناصف، عضو الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكى: «تحية مردودة من الرجال إلى الأستاذ هيكل»، فى إشارة إلى أن تحيته مردودة عليه، ولا يحتاجها الرجال المقاتلون. 

وفى رد مباشر وكاشف يكتب موسى صبرى عن المبشرين بالهزيمة، قائلًا: يستغل هيكل أجواء الديمقراطية لكى يبشر بالهزيمة، ويشيع اليأس والبلبلة والتشكيك بين الجماهير التى تعد نفسها لقتال المصير، موحيًا للجماهير بأنه اللسان الرسمى المتحدث باسم الدولة. 

أغلب الظن أن هيكل ومن ورائه الرئيس السادات اطمأنا تمامًا بعد أن وجدا الهجوم عليه بعد المقال فى الصحافة المصرية، من باب أنه يشيع أجواء الهزيمة، فإذا كان الصحفيون المصريون فهموا التحية بهذا الشكل، فلا بد أن تكون إسرائيل وأجهزة استخباراتها قد فهمت المقال على النحو ذاته.. وكان هذا هو المطلوب تمامًا. 

لم يلتفت كثيرون إلى ما ختم به هيكل مقاله. 

قال: طوال الطريق ومنذ البداية وإلى النهاية فإن الجيش المصرى كان يراوده إحساس أصيل بالانتماء إلى شعبه، وكان شعوره عميقًا بمدى التضحيات التى قدمها هذا الشعب حتى من قوت يومه لكى يوفر للجيش كل ما هو ضرورى، وكانت القوات تتشوق مرات كثيرة إلى خوض المعركة ولو قبل تمام الاستعداد لها، لكى تختصر العبء على الشعب، وكانت فى ذلك على استعداد لأن تدفع الفارق من تضحيات بالدم إذا دعا الأمر. 

ويصل هيكل إلى ما يريده عندما يقول: وذلك شعور لا يستطيع أن يحس به غير الذين يستطيعون أحيانًا أن يلمسوا نبض المقاتلين ويستمعوا بشفافية العاطفة إلى دقاته وخفقاته، وتلك ميزة من ميزات جيش الشعب يختلف بها عن غيره، فهو ليس جيش حزب، ولا حزب جيش، كما أنه ليس أداة قمع لسلطان أو طبقة فوق الطبقات. 

ويشير هيكل إلى أنه منذ أعلن أنور السادات، فى خطابه إلى الأمة يوم الأحد ٧ مارس، أنه قد جاءت اللحظة التى يتحتم فيها على كل مصرى أن يقف ليؤدى واجبه، فإن أمة بأسرها كانت تحاول من بعيد أن تصغى لأحاديث الجنود، وكانت الأصداء من هناك حماسية صافية، حماسة الشجاعة المبرأة من كل أثر للمزايدة التى شوهت، مع الأسف، وجه النضال العربى المعاصر، هناك لم تكن حماستهم مزايدة، إنهم هناك لا يزايدون، لأنهم هناك على خط النار. 

كانت هذه هى الرسالة الحقيقية التى كان هيكل، ومن ورائه السادات، يعرفان أنها ستصل إلى الجنود، الذين قرروا أن يحاربوا مهما كان الثمن، إذ إنه لا معنى إطلاقًا للحياة دون كرامة، وكانت كرامتنا فى استرداد أرضنا. 

الآن وبعد خمسين عامًا، ونحن نحتفل باليوبيل الذهبى لنصر أكتوبر، يحصل هيكل على حقه من التقدير، ويُعيد الرئيس السيسى الاعتبار لهذا المقال، عندما أشار إليه فى احتفالية القوات المسلحة خلال الندوة التثقيفية الـ٣٨ بانتصار أكتوبر، فلم يكن ما كتبه هيكل مجرد مقال عابر، ولكنه كان بعضًا من أدوات الخداع التى استهدفها الرئيس السادات لتنفيذ خطته فى الانقضاض المفاجئ على العدو الإسرائيلى. 

أعرف أن الأستاذ هيكل كان قد جهز لعمل إعلامى ضخم ليُذاع فى العام ٢٠١٣، بعد مرور ٤٠ عامًا على انتصار أكتوبر، وجلس مع المسئولين فى إحدى القنوات الفضائية، وكان سيحاوره فى حلقات مطولة الكاتب الصحفى الكبير عادل حمودة عن الحرب وما جرى فيها وعليها، لكن أحداث ٢٠١٣ حالت دون تنفيذ المشروع كله، وكان هيكل سيقدم فيه شهادته كاملة عن الحرب والانتصار والرئيس السادات، وكانت لديه مراجعات مهمة فى شأن الحرب، وأعتقد أنه لو كانت أتيحت له الفرصة لكنا سمعنا منه الكثير الذى يصحح به ما كتبه فى كتابه «أكتوبر ٧٣.. السلاح والسياسة». 

كان هيكل عنيدًا فى خصومته مع الرئيس السادات، وهى الخصومة التى جعلته غير محايد ولا منصف معه، لكنه فى سنواته الأخيرة كانت آراؤه قد تحولت فى صالح الرئيس السادات، وأعتقد أن حوارى الأستاذ الذين لا يزالون يعيشون بيننا استمعوا منه إلى ما قاله عن الرئيس الذى انتصر، وقد يكون من الواجب عليهم أن يقولوا لنا ما قاله دون إخفاء ولا إبطاء، فمرور خمسين عامًا على انتصاره يستحق منهم قبل غيرهم إنصاف الرئيس المنتصر. 

بعد خمسين عامًا على الانتصار أعتقد أن التحية واجبة للرجال، لكنها هذه المرة تحية حقيقية وليست مخادعة أو جزءًا من خطة الخداع، فقد أثبت الرجال للأستاذ هيكل وللآخرين أن كل التحديات التى كتب عنها لم تكن سوى دافع لهم ليحققوا المستحيل. 

قد يكون الأستاذ هيكل، محترف الوثائق الأول فى حياتنا السياسية والصحفية، قد استسلم لما تقوله له الأوراق، وما تخبره به السطور الصامتة، لكن لم تتح له الفرصة ليستمع إلى حديث الجنود، لم يعرف منهم تفاصيل البطولات التى نفذوها على الأرض، وأعتقد أنه لو كان قُدر له أن يستمع، لكتب مرة أخرى مقاله، ولكن بعنوان «تحية حقيقية للرجال».