رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ضروس القصر السلطانى

ما أسرع تقلب الأيام، فيقبع مَن كان فى القمة فى القاع، ويصعد من فى القاع إلى القمة، قد يحدث التحول فى المكان والمكانة ظلمًا، وقد يكون فى أحوال عين العدل، ونحن فى الأغلب لا نستطيع الخروج بحكم قاطع على شخوص التاريخ الذين غدرت بهم الأيام أو غدر بهم الأصحاب ورفاق العمل، وهل استحقوا الذل الذى حاق بهم بعد عز، والفقر الذى لف حياتهم بعد غنى، والمهانة التى سقطوا فى بئرها بعدما كانوا يجلسون على القمة؟. أيًا كان الأمر فإن العبرة أن شيئًا لا يبقى على حاله مهما طال به الأمد، ذلك ما يمكن أن نستخلصه من قصة الوزير «علم الدين بن زنبور الدميرى».

كما يظهر من اسمه ينتمى الوزير أو الصاحب علم الدين إلى قرية «دميرة» وهى واحدة من قرى مصر القديمة، وتتبع حاليًا مركز طلخا بمحافظة الدقهلية. وهو مصرى الأصل وفد من قريته إلى القاهرة، وأثبت نجاحًا كبيرًا فى العمل الإدارى، جعله موضع ثقة العديد من سلاطين مصر فى عصر الدولة القلاوونية، فعينه السلطان حسن بن الناصر محمد قلاوون وزيرًا، واحتفظ به فى موقعه السلطان الصالح صلاح الدين قلاوون الذى تولى الحكم بعد الإطاحة بأخيه «السلطان حسن». والأغلب أنه كان قبطيًا مصريًا تم استوزاره بفضل كفاءته داخل دولاب الحكم المملوكى، ويبدو أن مسألة استوزار المصريين الأقباط فى ذلك الوقت كانت تتم بحصص معينة، بدليل أن السلطان لما قبض على «علم الدين» وأطاح به من الوزارة، عين مكانه- كما يقرر «ابن إياس» فى كتابه «بدائع الزهور»- القاضى موفق الدين هبة الله بن سعد الدولة القبطى.

عندما تم تعيين الصاحب «علم الدين» وزيرًا اشترط على السلطان ألا يقبض راتبًا على عمله، فقد كان على درجة واضحة من الثراء التى تغنيه، أو كان يمهد الطريق لهدف معين، الله تعالى أعلم به، لكن سيرته تشهد- فى كل الأحوال- على أنه كان يؤدى المطلوب منه على أكمل وجه، والدليل على ذلك النمو المتزايد فى نفوذه داخل السلطنة، ورضاء السلطان «حسن»، ثم السلطان «صلاح الدين» عنه، وحين تم القبض عليه كان الصاحب «علم الدين» قد وصل إلى قمة الثراء والنفوذ داخل الدولة المملوكية، وعملية القبض عليه تمت بإيعاز من الأمير «صرغتمش»، وهو واحد من أهم وأخطر أمراء الدولة القلاوونية، وكان قائدًا عسكريًا خطيرًا وواحدًا من كبار المؤثرين داخل قلعة الحكم فى مصر. وهو بانى مسجد ومدرسة صرغتمش القائمة حتى الآن بشارع الخضيرى بجوار مسجد أحمد بن طولون بحى السيدة زينب.

يشير «ابن إياس» فى «بدائع الزهور» إلى أن الأمير «صرغتمش» وقع بينه وبين الصاحب «علم الدين» فقبض عليه وقيده، ثم أعلم السلطان، هكذا يتحدث «ابن إياس» دون أن يعطينا أى معلومة عن تفاصيل ما جرى بين الرجلين، وهل كان الأمر مجرد منافسة بين ضرسين داخل قصر الحكم، أم أن «صرغتمش» تحرك للقبض على «علم الدين» لأسباب موضوعية وجيهة تجعله يستحق ما حاق به بعد ذلك، كل ما يشير إليه المؤرخ الكبير أن «صرغتمش» قال للسلطان: إن أمر علم الدين قد ثقل على الناس، وقد حاز من المال ما لا يحصى. شكره السلطان على ذلك، ثم أرسل إلى «علم الدين» وقبض عليه وسجنه بالقلعة. لم يكن السلاطين حينذاك يهتمون إلا بالمال، فيكفى جدًا أن يسمع عن الثروة التى يملكها هذا الوزير أو ذاك حتى يسيل لعابه عليها، والواضح أن «صرغتمش» كان يدرك هذا الأمر جيدًا، ونجح فى اختيار الوتر الذى يعزف عليه وهو يؤلب السلطان على الصاحب «علم الدين»، وتر الثروة الكبيرة التى يكتنزها، أما الحديث عن مظالمه للناس، فكان حديثًا فارغًا، لأن كل أصحاب السلطة فى ذلك الوقت كانوا يظلمون.

تحرك السلطان بسرعة للبحث والتفتيش فى ثروة الصاحب علم الدين، ومن يقرأ مفردات هذه الثروة، كما عددها «ابن إياس» فى كتابه «بدائع الزهور» يجد عجبًا: صناديق متراصة من الذهب الذى بلغت قيمته ٦٠٠ ألف دينار، وثلاثين إردبًا من الفضة، وصناديق ممتلئة بالياقوت والماس وغيرهما من الأحجار الكريمة، وأوانى ذهبًا، وقطع أقمشة من الحرير والجوخ لا حصر لها، وأموالًا بلا عدد، وودائع لدى الناس لم يستطيعوا حصرها، وأنواعًا مختلفة من الطيور والحيوانات النادرة، وعبيدًا وجوارى بيضًا وسودًا، ومئات السواقى التى تتوزع فى أنحاء مصر، وأغنامًا وجاموسًا وبقرات حلابة، وذلك غير الأملاك والضياع. مختصر القول إن من يقرأ كشف أملاك الصاحب «علم الدين» كما سردها «ابن إياس» يشعر بأنه أمام رجل امتلك مصر كلها، وكى يغطى على المبالغة التى تنطق بها سطور كشف ثروته، قال «ابن إياس»: «وهذا الموجود الذى ظهر للصاحب علم الدين ما لا سُمع بمثل ذلك عن موجود الخلفاء العباسية، ولا الخلفاء الأموية، ولا الوزراء البرامكة».

المسألة لم تخل من مبالغة حاول «ابن إياس» من خلالها تبرير الهجمة التى قام بها السلطان صلاح الدين بن قلاوون على أموال وأملاك الوزير «علم الدين» بإيعاز من الأمير المملوكى «صرغتمش»، ولكى تكتمل معالم الصورة السلبية، أشار المؤرخ أيضًا إلى أن «علم الدين» كان من أشد الناس بخلًا، وأنه كان يدعى الخسارة بسبب عمله الوزارى، واستشهد على ذلك بالحوار الذى وقع بينه وبين السلطان صلاح، حين قال له الأخير: كيف كنت تشكو لى كل وقت، وتقول: أنا أخسر فى الوزارة كل سنة جملة مال؟ فكيف كنت تخسر وعندك هذه الأموال كلها». بعدها بطحه السلطان أرضًا، وضربه ضربًا مبرحًا، ثم قرر نفيه إلى مدينة «قوص»، حيث لقى وجه ربه هناك.

بعيدًا عن مبالغات «ابن إياس» فى وصف ثروة «علم الدين»، فإن ذلك لا يمنعنا من القول إن الرجل كان صاحب ثروة كبيرة، ربما يكون قد استفاد فى تضخيمها من موقعه كوزير، وهو ما دفع الأمير «صرغتمش» إلى التحرك ضده، وإفشاء أمره للسلطان، لكن تحركه هذا لم يكن يخلو من حسد على ما حظى به «الصاحب» من مكانة داخل القصر السلطانى، لم يتحدث عنها الأمير وهو يكيد له، بل ركز على ما يهم السلطان وما تتحلب عليه شفتاه: «المال».

كأن المنافسة بين «ضروس القصور» لا تفنى ولا تستحدث من عدم.