رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عزالدين نجيب.. وطن ملون

مع طول عهدى بالكتابة، لكننى ما زلت فى كل مرة أكتب ببطء وصعوبة، كأنها المرة الأولى، وكنت عصر يوم الجمعة قد أوشكت على الانتهاء من مقالى الأسبوعى للدستور حين باغتنا نبأ رحيل الفنان عزالدين نجيب، فنحيت المقال جانبًا وأخذت أستعيد صورته، وحضوره، وعينيه اللتين كانتا تلمعان دومًا بالمغفرة وترسلان للناظر إليه إشارة حب واحدة: هناك دائمًا فرصة لكى نكون أفضل. عزالدين.. القاص؟ الرسام؟ الناقد؟ الموقف؟ أم أنه كان وطنًا ملونًا بكل ذلك وبالحضور الفعال؟. المرة الأخيرة التى ظهر فيها عزالدين على الشاشة كانت فى فبراير هذا العام فى برنامج «أطياف» الذى تعده وتقدمه د. صفاء النجار التى لحقت بتوثيق صورة ذلك الفنان الكبير المبدع. وفيه قال عز إنه كان يتمنى لو أن له موهبة واحدة، لأن كل موهبة بحاجة إلى عمر بأكمله، ومع ذلك نجح عزالدين فى أن يكون دفتر مواهب متعددة: ناقدًا، وقاصًا، وفنانًا تشكيليًا، ومثقفًا صاحب موقف، تم اعتقاله مرتين فى عهد الرئيس السادات، ثم فى عهد الرئيس مبارك بتهمة توزيع منشورات تحرض الفلاحين على التحرك ضد قانون العلاقة بين المالك والمستأجر، وقد وثق عزالدين تلك التجربة فى كتابه «رسوم الزنزانة» الصادر عن قصور الثقافة فى ٢٠١٤، واشتمل على رسومه التى قام بها فى معتقلى القلعة وطرة، والتى رصدت وجوه زملائه من الأدباء والمفكرين ومنهم صلاح عيسى وكمال خليل وغيرهما. ويكاد عزالدين نجيب أن يكون الفنان الوحيد من جيل الستينيات الذى جمع بين الفن التشكيلى والأدب، وله فى ذلك مقال جميل بعنوان «المشترك بين الفنون التشكيلية والقصة» يوضح فيه كيف تمثل الصورة قاسمًا رئيسيًا مشتركًا بين النوعين. لكن الراحل العزيز بدأ قاصًا قبل أن يكون رسامًا، وذلك حين شارك مع خمسة كتاب آخرين فى مجموعة «عيش وملح» التى كتب لها المقدمة يحيى حقى، وعام ١٩٦٨ نشر منفردًا مجموعته «المثلث الفيروزى»، ومجددًا كتب المقدمة يحيى حقى، فشغل عزالدين مكانة واضحة بين أدباء الستينيات الذين ظهروا فى تلك المرحلة الناصرية التى برز فيها جيل حار بصدق وعمق بين التقدير لإنجازات المرحلة الوطنية، والرفض الواضح للقمع والاعتقالات. وقد تعددت الوجوه فى ذلك الزمن، كان يحيى الطاهر عبدالله يحيل غضبه إلى قلق وعصبية، ناثرًا الفوضى فى كل ما حوله، وكان أمل دنقل يصون استياءه واستعلاءه ولا يبدد غضبه فى ابتسام أو ضحكة، وكان جمال الغيطانى ينقل إليك شعورًا ثابتًا بأن الدأب والسعى سيصلان بالكاتب إلى ما ينشده، أما عزالدين نجيب فكان الوحيد من أبناء ذلك الجيل الذى ينظر إلى الآخرين بعينين لامعتين كأنه يقول لهم دائمًا: لدينا فرصة دائمًا أن نكون أفضل، تقدموا، ولا تتوقفوا عند الأخطاء. كان الوحيد من أبناء الجيل الذى يشبه الغفران والضمير الحى، وقد تفوق فى ذلك حتى على بهاء طاهر. فى كتابه «الصامتون.. تجارب فى الثقافة» الذى أعادت هيئة الكتاب طباعته، يشير بوعى الناقد والفنان صاحب الرؤية إلى أن الوعى بأسباب الظلم هو المادة اللازمة لتحويل الصمت من «آفة إلى طاقة»، وإلى فعل للمواجهة شرط وجود طليعة ثقافية تتعامل مع «الصامتين»، وتمنحهم الأمل، وتكتشف الطاقات الإيجابية فيهم. لا شىء يقال حين تكون الفاجعة بهذه القوة، وكما قال الشاعر أحمد حجازى: «كل ألفاظ الوداع مرة.. وكل شىء يسرق الإنسان من إنسان». ترحل إلينا وتبقى فى دفتر الوطن.