رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حملات تبرع غامضة

بين فترة وأخرى تجمعنى جلسات ببعض الأصدقاء من مختلف الفئات، أصحاب ورش، معلمين، معاشات، رجال أعمال صغار، سماسرة سيارات، ونتبادل النقاش فى مسائل عديدة. أغلبهم يقتربون من الفكر السلفى، ربما بسبب موروث ثقافى دينى حملناه من الآباء والأجداد. منهم مسلمون ومسيحيون، ولكنهم مسالمون ولا يتعصبون. 
وفسروا تلك المعاناة على أنها غلاء أسعار كل السلع والأجهزة الكهربائية. وغلاء اللحوم والأسماك والدواجن والشاى والسكر والأرز. 
ولأننى أعرف كل أصدقائى الجالسين معى من فترة طويلة، وأعرف تاريخهم جيدًا، فإننى لم ألاحظ عليهم أى تراجع فى مستوى المعيشة، بل أن بعضهم أدخل أولاده الحاصلين على الثانوية العامة بمجموع بسيط بكليات قمة خاصة، رغم مصروفاتها وأن ملابسهم تشى كثيرًا بمستواهم المعيشى.
حاولت تذكيرهم بتقرير الأمم المتحدة حول معاناة شعوب بعض الدول فى صمت والتى تتولى منظمة الإغاثة CARE كل عام إبراز الأزمات الإنسانية التى نالت أقل اهتمام من وسائل الإعلام فى العام السابق. سواء أكان الجوع فى مدغشقر وزامبيا، والنزوح فى جمهورية إفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، والعنف ضد النساء والفتيات فى بوروندى أو عدم الحصول على مياه شرب نقية فى كوريا الشمالية: هذا ليس سوى عدد قليل من الأزمات المنسية التى تنشرها المنظمات الدولية، ولم أتطرق إلى الوضع فى سوريا والسودان واليمن وتونس. باعتبارهم دولًا عربية وشقيقة تعانى شعوبها أيضًا فى صمت.
سألنى أحدهم عما إذا كنت أستمع لدعوات التبرع بزراعة شتلات النخيل أو شجر الزيتون. 
وبالفعل شاهدت تلك القنوات التى تلح على المسلمين بفوائد التبرع. وأيقنت أن الشىء الغريب هو ما نشاهده من الشيوخ فى بعض القنوات التليفزيونية، لم يطلبوا من الناس التبرع بالأموال والطعام أو الشراب للفقراء والمحتاجين، أو حتى دفع رسوم المدارس للفقراء من الناس ممكن لا يقدرون على دفعها. ولكنهم يدعون الناس للتبرع لترميم وبناء المساجد وزراعة النخيل وأشجار الزيتون فى الصحراء، فى مناطق قاحلة لا يسكنها أحد، ألا يدل هذا على شىء؟ 
هو أن الشيوخ لم يروا أن هناك محتاجًا يستحق عطفهم من بين أفراد الشعب الذى يعيشون بينهم، بل يستغرق الشيخ منهم فترة طويلة فى فقرة إعلانية بأجر كبير، نظير تلك الدعوات لبناء مساجد وترميمها، أو زراعة شتلات النخيل وانتظار ثمارها بعد خمس سنوات أو أكثر، ويتم تصوير الشيخ وهو ينتقل إلى تلك المنطقة الصحراوية النائية ليرى بعينيه الشباب وهم يشتلون النخيل. ويستدعى من الأحاديث النبوية ما لم نسمعه من قبل عن فوائد النخيل وثواب المتبرعين، حيث ينتظرهم الرسول الكريم على باب الجنة، تحت شعار أنه مشروع وقف خيرى استثمارى وصدقة جارية لصالح فقراء الصعيد، ويحقق لهم دخلًا سنويًا متناميًا، يحفظ لهم كرامتهم ويضمن لهم حياة كريمة. ويحقق تنمية مستدامة لتنفيذ بعض المشروعات البيئية المرابطة به. 
ويطالبون الناس بالتبرع من خلال التطبيق ونشر الأخبار على صفحات التواصل الاجتماعى. يتيح التطبيق عمل كروت تهنئة «تبرع» فى حالات الزواج والنجاح.. إلخ، كإهداء لهم.
كما يظل المذيع فى إحدى القنوات لمدة نصف ساعة يتحدث عن مسجد القرية القديم ويذكر حالة البؤس لمساكين المسلمين وهم يعانون أثناء إقامة الصلوات فى هذا المسجد وهو يخشى أن ينهار المسجد عليهم أثناء الصلاة. ولا يذكر معاناتهم فى الحصول على الطعام والعلاج والدواء ومعايشتهم الأمراض وارتفاع أسعار الأطباء والدواء والمواد الغذائية.
وعندما دخلت على منصات التواصل الاجتماعى وجدت أن هناك جمعيات خيرية كبيرة وقفت نشاطها على حث الناس على التبرع لزراعة شتلات النخيل فى أراضٍ لا يمتلكونها، وليس لهم الحق فى المطالبة بها فى المستقبل. ويقولون إنها صدقة جارية تمتد لما بعد الموت، وإنها تتضاعف باسمك أو اسم شخص عزيز عليك وسيتم توجيه عائدات النخيل إلى مراكز الغسيل الكلوى- فك كرب الغارمين - كفالة أيتام- إطعام- وصلات مياه- علاج وأدوية شهرية- عمليات جراحية. ولا أعرف لم لا يطالبون الناس بالتبرع مباشرة لهؤلاء المحتاجين مباشرة دون انتظار عائدات النخيل بعد فترات طويلة. أكيد هناك سر لا يعلمه إلا الله فى جدوى تلك الحملات؟ 
الأمر ما ذكرنى بالمساجد التى انتشرت فى أملاك الدولة وعلى شواطئ نهر النيل والترع الرئيسية مثل الترعة الإبراهيمية التى تخترق أطول أربع محافظات فى الصعيد، وترعة المحمودية فى الدلتا. والغريب أن تلك المساجد وضعت عنوة فى الطرق المرصوفة بين المحافظات، فى طريق القاهرة- أسوان بطريقة يستحيل معها أى توسيع لتلك الطرق مستقبلًا دون إزالة تلك المساجد، وبالطبع يكثر الصياح والنواح عن إزالتها للمنفعة العامة مستقبلًا. 
ولا أعلم السر فى تلك الحملات التى يقودها شيوخنا والتى تتشابه مع كان يقوم به أعضاء الجماعات الإسلامية فى الثمانينيات من حملات التبرع لبناء المساجد فى أراضى الدولة وفى المساجد، وكانوا يأخذون حصيلة التبرع التى يقوم بها فقراء الناس لشراء أسلحة وذخائر يقتلون بها رجال الشرطة.