شيخ الأزهر يحكي عن تجربته الشخصية في حياته التي أَوْشَكَتْ أن تُلامِسَ عَقدها الثامن
قال فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، في كلمته الافتتاحية باللقاء الدولي من أجل السلام بألمانيا، إنَّ عالمنا اليوم، لم يكن في عصرٍ من العصورِ السابقة بأحوجَ إلى الاستماع لصوتِ الأديانِ السماوية: صوتِ العقل والحكمة والتعارف، مِمَّا عليه الحال في عصرِنا هذا: عصرِ الأهوال والكوارث، والعبثِ بالأرواح وحُرمة الدِّماء، والسُّخريةِ من قِيَمِ الأديان وضوابط الأخلاق والفِطْرَة الإنسانيَّة، التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها، والاستهانةِ بحقوق المظلومين والمستضعَفين والمعذَّبين في الأرض.
ولفت شيخ الأزهر إلى أننا كنا ننتظرُ من العقود الأولى من الألفيَّة الثالثة أن تحمل من تحضُّرِ الإنسانية وتراحُمها وتعارفها بمقدار ما حملته من تقدُّمٍ مُذهلٍ وقفزات مُدهشة في مجالاتِ التقدُّم العلمي والصناعي والحضاري المادي، إلَّا أنَّ الواقعَ الأليم أثبت أنَّ هذا التَّقدُّم لم يُواكبه -مع الأسف- تقدُّم مُوازٍ في مجال المسؤولية الأخلاقية، والإصغاء لنداء الضَّمير والالتزام بالفِطْرَة الإلهيَّة التي فَطَرَ الله الناسَ عليها..
وأوضح الإمام الطيب أنه قد تبين لذوي العقول أنَّ العلاقة بين التقدُّم التِّقَني والحضاري وبين الحروب أصبحت -ومع الأسف- علاقةَ تلازُم واطِّراد، رُغم ما بَشَّرَنا به فلاسفةُ النهضة، وأكَّدوا عليه من أنَّ تقدُّمَ الإنسان في العلوم وفي الحضارة سوف يَقضي على الحروب وأسبابها قضاءً مُبرمًا، وأنَّ السَّلام سوف يُلازمُ التَّحَضُّر، ويسيرُ في مَوكبِه أنَّى سار: رأسًا برأسٍ، وقَدَمًا بقدمٍ، حتى إنَّ الفيلسوفَ الفرنسي الشهير: كوندورسيه قال فيما قال عام 1787م: «بقَدْرِ ما تتَّسِع رُقعةُ الحضارة على الأرض، سنشهد زوالَ الحرب، وكذلك زوالَ العبوديَّة والبؤس».
غير أنَّ هذه الأماني سُرعانَ ما تَبيَّن أنَّها حُلم من أحلام اليَقَظَة، فلفت شيخ الأزهر إلى أنَّ صليلَ الأسلحة وطبولَ الحروب، ودماءَ القَتلى، وأنينَ الضَّحايا، وخسارةَ الأموال التي تُحسَب بالمليارات والتريليونات -كان الحقيقةَ الـمُــرَّةَ والواقعَ الأليمَ الذي صَحَتْ عليه الإنسانيَّةُ في الشَّرقِ وفي الغرب أيضًا.. وأنَّ الفيلسوفَ البلغاريَّ المعاصر «تودورف تِزْفيتان»، والذي وافَتْهُ المنيَّة منذُ خمسِ سنواتٍ مضت، أصاب كَبِدَ الحقيقةِ وهو يقول: «إنَّ الثقافات بكلِّ مُكوِّناتها التِّقنيَّة والفنِّيــَّة تنتشرُ بسرعةٍ مُتزايدةٍ في أرجاءِ الأرض، وتعرفُها شرائحُ كبيرة من سُكَّان العالَم، ومع ذلك؛ فإنَّ الحروب لم تتوقَّف، والبُؤسَ لم يَتراجع، وحتى العبوديَّةِ لم تُلغَ إلَّا من القوانينِ فقط، أمَّا على مستوى الممارسة فإنَّها لازالت باقية»
وخلال كلمته باللقاء الدولي من أجل السلام بألمانيا، حكى شيخ الأزهر عن تجربته الشخصيَّة في حياته التي أَوْشَكَتْ أن تُلامِسَ عَقدها الثامن، مشيرا بالقول: "وُلِدْتُ في أعقاب الحرب العالميَّة الثانية عام 46 من القرن الماضي، وما إنْ بلغتُ العاشرةَ حتى دَهمت مدينتي: مدينةَ الأقصر، التي تضمُّ ثلثَ آثار العالم - دهمَتْها حربُ العدوان الثلاثي في عام 1956م، ودكَّت مطارَها المدنيَّ، وعرفتُ -مع أقراني في طفولتنا الباكرة- معنى: الرُّعْبِ والخوف، وقضاءِ اللَّيالي في الظَّلام الدَّامِس، وفي مُغاراتٍ تحت الجبال نَأوي إليها مع آخِر ضوءٍ من النَّهار، ونخرجُ منها بعد الفجر، هربًا من قنابلَ تُرسِلُ أضواءَها الكاشفة، ثم تَعقُبها تفجيراتٌ تنخلعُ لها القلوب.. ولم يَمُرَّ على هذهـ الحربِ أحدَ عشرَ عامًا حتى دهمتنا في مصرَ حرب 67، وعِشنا معها أيَّامًا أَمَرَّ وأقسى من أيَّام حرب 56، تلَتْها سنواتٌ شِدادٌ عِجافٌ من اقتصاد الحروب، وخسائر الأرواح... وإنْ أَنْسَ فلا أنسى قنبلةً أُلقيت على مدرسةٍ ابتدائية مُكتظَّةٍ بالأطفال والمدرسين والعاملين، وأحالَتْهم -في لحظاتٍ- إلى أكوامٍ من الأشلاء المختلِطة بتُراب الأنقاض... ثم دخلنا حربَ تحرير سيناء عام 73، تلكم التي عرَفْنا معها معنى العزَّة والكرامة والصُّمُود..
وواصل الإمام الطيب حديثه عن تجربته بالقول: "وقد كُنَّا نظنُّ -آنذاك- أنَّ عهدَ الحروب في منطقتِنا قد ولَّى إلى غير رجعة، وأنَّ حياةً حافلةً بالأمن والسلام والرخاء، بدأت تُشرق علينا من جديد، وأنَّ مؤسساتٍ دوليةً عُظمى تتعهَّد بحمايتنا من فوضى الحروب.. غير أنَّ الرياحَ لم تأتِ بما تشتهي السُّفن، كما يقول الشاعر العربي، فقد سارت الأمورُ -بترتيبٍ غامضٍ مَشبوهٍ- في مَسارِ الإرهاب الذي حصد أرواحَ الناس باسم الإسلام، وعاثَ في منطقتنا من أقصاها إلى أقصاها، ولم تكد تُكسَر شوكته حتى أسلَمَنا إلى سلسلةٍ جديدةٍ من الحروب لا تزال آثارُها المدمِّرة تتوالد وتتكاثر مع كلِّ مطلعِ شمس.. بدأت بحرب الخليج ثم تطوَّرت إلى غزو العراق، وتدمير كثيرٍ من مُؤسَّساته الحضاريَّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة، ثم امتدَّت إلى سوريا ولبنان شمالًا، ثم اتجهَتْ جنوبًا إلى اليَمَن، ثم ولَّت وجهَها القبيح غربًا نحو ليبيا، وبعد أن طال مقامها بعالمنا العربي امتدَّت إلى السهل الإفريقي، ثم عبرت المتوسط، وقسَّمت عالم الشمال، بل العالم كله، إلى ما يُشبه معسكريْن يقتتلان، وآفةُ هذهـ الحرب الأخيرة أنَّ تأثيرَها الخانق عَمَّ العالَم كلَّه، وأنَّنا وإنْ كُنَّا نعرف بدايتها، إلَّا أننا -باليقين- لا نعلم متى تكون نهايتها، ولا على أيِّ وضعٍ ستكون.
يذكر أن "اللقاء الدولي من أجل السلام"، هو تجمع دولي تنظمه جمعية سانت إيجيديو – وهي منظمة إنسانية مقرها العاصمة الإيطالية "روما" وتنتشر في 73 دولة في أوروبا وإفريقيا وأمريكا وآسيا – في العاصمة الألمانية برلين، في الفترة من ١٠ إلى ١٢ سبتمبر الحالي، بحضور السيد فرانك فالتر شتاينماير، رئيس الجمهورية الألمانية، وعدد من قادة الأديان والمجتمعات، والشخصيات السياسية؛ لبحث سبل تعزيز قيم السلام والأخوة الإنسانية، ومكافحة تزايد وتيرة الإسلاموفوبيا في أوروبا، ومناقشة سبل التصدي للإساءة للمقدسات الدينية.