رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زغرودة حلوة لعالم جديد

كنا صغارًا حين لمع نجم فؤاد المهندس وأمين الهنيدى، وكنا نضحك من قلوبنا مع أى مسرحية لهما فى التليفزيون، أما جدى لوالدتى فكان يشيح بوجهه مؤكدًا بثقة وازدراء أنه: «لا كوميدى فى مصر إلا إسماعيل يس، هو الوحيد الذى يضحكنى». وأحيانًا نتخذ نحن أبناء الأجيال الماضية الموقف ذاته من أفراح وهموم الأجيال الجديدة، فنعتز بماضينا، وفنونه، وتقاليده، ونعلى من عظمة عبدالحليم، وكارم محمود، وأحلام، ونعجز عن فهم السر فى إنصات الأجيال الجديدة لشيرين، وحماقى، وحمو بيكا، وحتى أغنيات المهرجانات الهابطة. 

لا يسعنى بالطبع أن أتذوق أو أتعاطف مع تلك الأغنيات، لكنهم أيضًا لا يتذوقون ولا يتعاطفون مع أغنياتنا: حورية حسن وعبدالوهاب ومحمد فوزى. هم فى حاضرهم ونحن فى معظم الأحيان قابعون فى ذكرياتنا. ثمة صلة مقطوعة بيننا. ولعل السر فى ذلك أن عالم الأجيال الجديدة يبدأ بينما يتلاشى عالمنا نحن وتتوارى معانيه وأشياؤه وحكمته. 

إننى أنصت إلى أغنية أحلام الجميلة: «زغرودة حلوة رنت فى بيتنا.. لمت حارتنا وبنات حارتنا.. والطبلة دقت فى مندرتنا» وأتساءل هل ما زالت هناك حارة فى مصر بهذا المعنى؟ ومندرة؟ أم أن عالمنا الذى كانت الحارة فيه كائنًا واحدًا قد اختفى، مثلما اختفت مخرطة الملوخية لمن لا يزال يذكرها، وزال الغناء فى سبوع المولود الجديد: «حلقاتك برجالاتك» التى تعنى حلقة فى أذن الوليد وأمنية بأن يفرد رجليه ويصبح كبيرًا. لم يعد أحد يغنى «برجالاتك» بل ولم يعد هناك من يذكرها تقريبًا. وحتى أغنية مثل «يا بيت أبويا معزتك فى عنيه.. ما شفت منك غير ليالى هنية» اختفت، ولم يعد لها معنى، لأنها كانت مرتبطة بوضع المرأة فيما مضى حين كان لا بد لها من حماية إما فى بيت والدها أو زوجها. لم يعد لتلك المرأة الملتاعة وجود الآن، بينما كانت فى زمن سابق تمثل معظم نساء مصر. وقد كان هناك ما يشبه الموال الشعبى باسم «سارة وإبراهيم» عن زوجة إبراهيم الثانية التى ما أن أنجبت حتى اشتعلت الغيرة فى قلب ضرتها، فطلبت من إبراهيم أن يأخذ سارة: «على الخلوات ويرميها من غير رحمات». لم تعد تلك هى صورة الضرة إذا كان ثمة من لا يزال قادرًا على الزواج بامرأتين. تختفى الأشياء، مثل مخرطة الملوخية، وتبلى المفاهيم الاجتماعية، وتتغير الظروف التى تنهدت فيها آلام الفلاحين فى غنوتهم: «ناس بتلبس قفاطين، وناس تشيل على القفا طين، وناس تتغطى بالبطاطين، وناس بتغرق لحد البطاطين». 

وكنا ونحن أولاد صغار نلعب فى الشارع لعبة السبع طوبات التى تنهض واحدة فوق الأخرى، ومعنا كرة نصوب بها على الطوبات من مسافة محددة، أما البنات فكن يلعبن «الحجلة» على أرض مقسمة مربعات. هذه كانت ألعابنا، بينما الأجيال الجديدة تلعب بالموبايل، والكمبيوتر. الأجيال الحالية لم تسمع بشىء عن حياتنا، ونحن نعجز فى أحيان كثيرة عن فهم ألعابهم. يتبدل العالم من حولنا، ولا نعود قادرين إلا بمعجزة على ملاحقة العالم الجديد، وأولئك الشبان الصغار الذين، كما كنا نحن فى زمن ما، لا يؤمنون بالحاضر لكن أملهم فى المستقبل، ولا يثقون بالنجوم والفنانين الذين نحبهم، ولا بالكتب التى نقرؤها، ولا بما نقوله أو ما نفعله. إن لديهم شيئًا آخر، لا نعرفه، سيعربون عنه فى اللحظة التى تناسبهم. أما نحن أبناء الأجيال السابقة فإننا محكومون بالوفاء لماضينا، وتاريخنا، وذكرياتنا، وأغنياتنا، لكن علينا فى الوقت ذاته أن نكون أكبر من الماضى وأن نطلق زغرودة حلوة للعالم الجديد حتى لو لم يكن عالمنا.