رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوبنهايمر ومعضلة الأخلاق

أثار فيلم أوبنهايمر منذ عرضه ردود فعل متباينة وعديدة، بعضها تقني وفني، والبعض الآخر له أبعاد فكرية، وفلسفية أيضًا.
لنفكر في موضوع الأخلاق في ضوء فيلم أوبنهاير، ما هو الالتزام الأخلاقي للإنسان؟ هل هو التزام تجاه وطنه أو تجاه العالم؟ لأنه من الواضح في حالة العالم أوبنهاير بالذات أن ما قام به هو خدمة جليلة لوطنه، لكنه في الوقت ذاته كان وبالاً على آخرين وسبباً في قتل الكثير من البشر. صحيح أن هنالك جدلاً تاريخياً حول ما إذا كان استعمال القنبلة الذرية قد أنهى الحرب العالمية الثانية بأسرع طريقة ممكنة أم أنه كان مجرد استعراض للقوة بلا مبرر في حرب كانت بوادر انتهائها قد لاحت في الأفق فعلاً، وإذا ما كان إنهاء الحرب بهذا الشكل قد أدى إلى خسائر أقل أو أكثر في الأرواح، إلا أن القتل الشنيع بالجملة الذي نتج عن القنبلتين الذريتين لا يمكن ببساطة تجاهله، مما يبرز التناقض بين الأخلاق الوطنية والأخلاق الإنسانية الأكثر عمومية.
ولا يمكن حل هذه المعضلة من خلال الانتقال من معيار أخلاقي تحيزي إلى معيار آخر. فالأخلاق المستندة إلى الدين على سبيل المثال، وعلى الرغم من كونها مرتكزة على معيار يفترض عمومية إنسانية من نوع ما، إلاّ أنها أخلاق تشتمل أيضاً على معيار تحيزي، فعمومية الأخلاق الدينية تفترض أن التعميم سوف يتحقق عندما يتحقق انضواء جميع البشر تحت لواء الدين الواحد، أما قبل ذلك، فإن الدين كما الوطنية، يضعنا أمام الآخر في تقابل صراعي، إذ يضع ديننا مقابل دين الآخر ويضع المتدينين مقابل الآخرين، ولذلك فإنه لا يبدو أن الأخلاق المستندة إلى الدين تشكل حلاً لهذه المعضلة.
من هذا المنطلق، يبدو حكم فيلم أوبنهايمر على هذه المعضلة الأخلاقية ملفتاً، فبالرغم من أنه من المعتاد أن تنحاز أفكار ما بعد الحداثة إلى الآخر -أو الآخرين- وتقر بوجودهم كمبدأ أخلاقي ومنطلق فلسفي، إلا أن الحكم الأخلاقي في فيلم أوبنهايمر لا يبدو ما بعد حداثي من هذا المنظور، فهو لا يقر أن ضرب اليابان وقتل اليابانيين -باعتبارهم الآخر في هذا السياق- هو خطأ في حد ذاته، في الحقيقة هو يُحيِّد الأمر المتعلق بهم كآخر تحييداً تاماً، جاعلاً القضية الأساسية للفيلم هي أخلاق الإنسان الفرد وامتلاكه معايير أخلاقية عالية مقابل تبنيه نظرة تافهة تجاه نفسه وتجاه الحياة.
من جهة أخرى، وباعتبار أن قيم ما بعد الحداثة تهدف إلى هدم السلطة أياً كانت، فإن فيلم أوبنهايمر يبدو ما بعد حداثي بامتياز. فهو من جهة رفض اعتبار أوبنهايمر بطلاً للخدمة التي قدمها لبلده وبذلك رفض الإقرار بالتبرير الوطني لفعل أوبنهايم، لكنه من جهة أخرى رفض إدانته بناء على التبرير الإنساني المعادي للقتل، وبذلك، وهو الأهم، رفض المعيار الأخلاقي المستند إلى عقدة الذنب الغربية تجاه الشعوب المستعمرة.
ما هي إذا المحاكمة الأخلاقية التي تبناها نولن في فيلمه؟ وكيف يمكن لنا الاستدلال على النقاش الأخلاقي الذي تبناه من خلال أحداث الفيلم؟ كيف عالج نولن إذا السؤال الذي تطرحه العولمة على الأخلاق باعتبارها لا يمكن لها بأي حال أن تتجاهل الترابطات والتأثرات على مستوى دول العالم وحتى على مستوى شعوبه وأفراده أيضاً؟
في الفيلم بدت شخصية أوبنهايمر لا تتمتع بمعيار أخلاقي عالمي يمكن له أن يتجاوز الفكرة الوطنية البسيطة. فهو، وإن كان -بحسب الفيلم- مدركاً للمنظور الأممي للعالم ومتعمقاً في بعض الفلسفات الإنسانية، إلا أنه لم يعبأ بهذا كله واستطاع تجاهل أثر اختراعه على الإنسانية أو على البشر الذين سوف يستخدم الاختراع الجبار الجديد ضدهم، كما أنه لم يبد مشغولاً بالآثار طويلة الأمد لهذه القوة المدمرة، لكن الفيلم لا يدينه لأجل ذلك، بل يدينه لأنه كان تافهاً في المقام الأول عند التعامل مع أخلاقه نفسه، فوضع أخلاقه الشخصية عند التعامل مع محيطه ومجتمعه ونفسه عند مستوى متدن وتافه.
فعلى طول الفيلم ذي الساعات الثلاث شديدة الكثافة، يناورنا كريستوفر نولن ليخفي عنا ما يدور حقيقة من أفكار في رأس أوبنهايمر، العالم المرتبك، الذي يحاول أن يصارع الكثير من التردد الذي يكتنف حياته والخيبات التي تعصف به. لكنه يكشف لنا، في النهاية، ومن خلال تلاقي المسارين الزمنيين الذين توازيى على طول الأحداث، وتمايزا لونياً بين خط زمني بالأبيض والأسود وخط آخر بالألوان، أن الهم الأساسي لبطلي الفيلم، وهما أوبنهايمر وشتراوس، كان دائماً صراعهما مع بعضهما البعض على من يكون له الانتصار والكلمة الفصل في صراع البيروقراطي أو السياسي مع العالم، في وضع كان كلاهما فيه تافهاً ولم يهتم إلا بمصلحته الذاتية المتمثلة في انتصار للكرامة الذاتية التي تقلصت لتصبح أقصى اهتماماتها الرد على إهانة شخصية من أحدهما للآخر.
تفاهة أوبنهايمر وعدم اكتراثه بالعالم لم يقتصر على طريقة تفكيره تجاه السلاح الجديد، بل كان ظاهراً في المشاهد التي عرضت تفاعله مع المجموعات الشيوعية التي بدا متردداً في التقرب منها في شبابه بالرغم من ميله إليها. فهو إذاً شخص لم يكترث حقاً بما يجري في العالم كفاية ليناضل من أجله أو يتحيز له صراحة، بالرغم من ثقافته واطلاعه وسفره وحياته في أوربا. لكن لماذا يتحيز لهذه الجماعة المشتتة؟ فالفيلم نفسه لم يحاسبه على عدم انحيازه هذا، بل أظهر الجماعة على أنها غير ذات أهمية وقدم لنا الانطباع بأن أيدولوجيتها غير ذات قيمة حقيقية. لكن الفيلم بالمقابل عاب على أوبنهايمر تردده وكذبه تجاه انتمائه لهذه الجماعة وتجاه واعتقاداته الأيديولوجية. فهو إذاً لم يحاسب أوبنهايمر لأنه لم يؤمن بالفكرة، بل لأنه كان استغلالياً ولم يحسم موقفه. فمعيار الأخلاق الذي عاب أوبنهايمر في الفيلم كان معيار أخلاق ذاتياً مستنداً على الصدق مع الذات وليساً معياراً مستنداً إلى الموضوع المفكر به.
مكان آخر بدا أن الفيلم عاب فيه على أوبنهايمر تردده واستغلاليته كان علاقاته العاطفية. ففي علاقته العاطفية الأولى مع الفتاة الشيوعية التي أحبها بدا مستغلاً وتخلى عنها عندما أصبحت العلاقة متعبة له وإن كانت تشتمل على الحب، مفضلاً الالتجاء إلى علاقة لا حب فيها لكنها تؤّمن له قدراً أكبر من الراحة والاستقرار. هذا التخلي عن الحب لصالح الراحة والاستقرار ظهر في الفيلم كنوع من الانتهازية والتخلي عن القيم التي يؤمن بها، بدليل أنه كلفه الكثير من تأنيب الضمير عندما عَلِم بانتحار الفتاة التي أحبها وإن كان بعد فترة طويلة من زواجه.
وهنا لابد من مراجعة للذات للاعتراف بتناقض ما يسود مجتمعاتنا نحن الذين نتلقى الفيلم في المجتمعات العربية، وربما في العالم الثالث عموماً. فبالرغم من أن الفكرة الوطنية أو الدينية هي الفكرة السائدة في مجتمعاتنا، سواء في التربية المدرسية أو المنزلية، كما في الكثير من نقاشاتنا الثقافية ما بعد الاستعمارية، إلا أننا نطالب الغرب بصفته المستعمر السابق والمهيمن الحالي على العالم أن يفكر أخلاقياً على مستوى يشملنا جميعاً تحت مظلته، ويراعي مصالحنا بالرغم من أننا لا نريد الاعتراف صراحة بسلطته بل تتبنى العديد من الخطابات الأيديولوجية للحكومات العربية، كما للتيارات السياسية والثقافية غير الرسمية- إظهار نوع من التحدي، يزيد أو ينقص، لكنه يتمركز في جوهره حول حلم مركزية ضائعة كانت من نصيبنا في يوم من الأيام وانتقلت إلى الغرب ولا بد أن تعود. هي فكرة تستبدل مركزية بمركزية أخرى، فنعجز بدورنا عن الانتقال إلى مستوى عصري من الأخلاق السياسية يشمل الإنسانية جمعاء كما نطالب الآخرين.
وهنا نعود إلى الفكر ما بعد الحداثي أو المعيار الأخلاقي العالمي. هل تتميز الدول المتقدمة وحدها بالمعيار الأخلاقي العالمي بينما تركز الدول الأقل تقدماً على معايير وطنية أكثر محدودية؟ أم أن المعيار الأخلاقي العالمي يتناسب مع ازدياد مستوى الديمقراطية طرداً ويتراجع في المجتمعات المستبدة؟ أم أنه يتناسب طرداً مع المستوى الاقتصادي فيسمح الاقتصاد المتقدم بظهور الأفكار المعترفة بالآخر.
ولما كان الفيلم لا يقوم على افتراض أن الاعتراف بالآخر وانتقاد الذات ومحاسبة التاريخ على الأخطاء التي حدثت كان ليمنع تكرار الأخطار ويحد من الحروب ويمنع استغلال الشعوب الأخرى. لذلك انطلقنا من أن معالجة فيلم أوبنهايمر للمعضلة الأخلاقية تبدو مثيرة للاهتمام.
فهو لم يفترض أن اهتمام أوبنهايمر بالآخر -العدو في هذه الحالة- كان ليمنع الجريمة التي حدثت، بل هو افترض أن امتلاك أوبنهايمر لأخلاق أكثر رقياً وأبعد عن التفاهة هو ما كان ليشفع له كشخص أمام ما أدى إليه اختراعه. ومن جهة أخرى فإن تحلي المجتمع بمعايير أخلاقية أقل تفاهة وأكثر جدية في التعاطي مع الحياة ربما كان ليغير من النتائج الكارثية التي آلت إليها الحرب، ولو أن هذا الأمر هو مما لا يمك الجزم به، إلا أنه كان على الأقل ليشفع للمجتمع أخلاقياً في نظر الفيلم. 
من هذه الزاوية يبدو فيلم أوبنهايمر لكريستوفر نولن تحدياً ذكياً للصوابية السياسية، فهو لا يدين القتل بذاته، فالحرب فكرة حقيقة وحاضرة، لكنه يدين أوبنهايمر نفسه ليس لأنه ساهم في اختراع أدى إلى القتل، بل لأنه كان تافهاً وصولياً بالرغم من كل القدرات العقلية والإدراك الأخلاقي والفلسفي الذي كان لديه. بهذا المعنى يعيد نولن نقطة الارتكاز الأخلاقي إلى حكم الفرد وتميزه وليس إلى الكليشيهات الصوابية التي رجحت كفتها في السنوات الأخيرة معممة نظرة دوغمائية موحدة تذكرنا بالأخلاق التي حاولت نشرها الأنظمة الشمولية المستندة إلى أيديولوجيات يسارية غالباً، لكن هذه المرة دون مسند أيديولوجي واضح يبرر الصوابية السياسية الجديدة سوى فكرة إنسانية هشة مسطحة يبدو من الواضح أنها سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى نوع جديد من المكارثية ومحاكم التفتيش الجديدة.