رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحيارى والمتعبون فى حضرة الشيخ ياسين

لست غريبًا عن عالم الحضرة.. ولا عن الشيخ ياسين.. ورفقاء الشيخ ياسين.. فقد عشت عشرين سنة من عمرى فى شوارع لا تتوقف عن ذكر الله.. تفرح تذكر الله.. تحزن تذكر الله.. تقيم الصلوات، وتختم القرآن، وتذهب إلى آخر الدنيا بالشموع، لطلب الرضا من آل بيت النبى. 

هناك فى الصعيد كان الكاسيت جديدًا علينا.. والإذاعة لا تقدم من تلك الفنون التى نعرفها سوى القليل.. كانت إذاعة الشعب تفعل ذلك.. وبرنامج تليفزيونى وحيد اسمه الفن الشعبى يُذاع مرة واحدة أسبوعيًا.. لكن ما نعرفه نراه فى الموالد.. وأفراح الأهالى بعودة الغائب من سفر أو مرض.. وفى زواج البنات والصبيان من أبناء أكابر العائلات.. ومن نجوم هذه الاحتفالات المهمة، التى كنا نتجهز لها قبلها بشهور، كان التونى والعجوز وجابر أبوحسين والشيخ ياسين، الذى بدأ مختلفًا عنهم جميعًا. 

كل المداحين وقتها يغنون بالعامية.. معظمهم كانوا رواة للسيرة الهلالية بالأساس.. لكنه جاء ليغنى أشعار ابن الفارض والسهروردى.. والشريف الرضى.. كلمات فصيحة تذوب عشقًا فى الله وكنا نفهمها.. ربما جذبتنا إليه فى البداية عمامته الملفوفة بطريقة مبتكرة لا تشبه طريقة أهل الصعيد فى لف عمامة الرأس.. وشاله النبيتى الرفيع.. جذبتنا فرقته الموسيقية، فالسابقون له آلاتهم مختلفة وبسيطة.. العارفون بفنون الإنشاد أيضًا أدركوا أنه صاحب طريقة مختلفة فى أداء المقامات.. وفى استخدامه حنجرته.. صار ياسين حالة فى كل قرى ومدن الصعيد.. قريته الحواتكة بأسيوط هى معمل تفريخ للمنشدين، ومنهم أسطوات كبار، لكنها فجأة أصبحت قرية ياسين التهامى، الذى يطلبه الكل، وبمواعيد مسبقة تصل لشهور.. الحالة التى صنعها التهامى تشبه كثيرًا تلك الحالة التى يصنعها أثناء الحضرة، حيث يغرق هو وجمهوره من الحيارى والمتعبين فى وصلة تطهُّر لا تنتهى بإيقاف الإيقاع وإطفاء الأنوار ولم العِدة، بل تمتد بعدها لأيام والكل يردد فى سره.. أكاد من فرط الجمال أذوب.. وهذا ما حدث من يومين فى ساحة قلعة صلاح الدين، حيث حضر الآلاف من كل الأعمار ومن كل محافظات مصر.. ودخل الملايين معهم فى حضرته، وهم جلوس أمام شاشة قناة الحياة. 

أعرف أن إحدى الطبيبات فى لندن تستخدم مديح الشيخ ياسين فى علاج مرضاها.. وأعرف أن عشرات رسائل الماجستير والدكتوراه درست ما يؤديه.. كما درست تأثير حضرته فى مريديها.. وأعرف أنه آخر أبناء جيل الكبار ممن يمارسون فن المديح النبوى، وهذا هو الأمر الذى دفعنى منذ سنوات لإعداد مشروع كامل لرصد وتوثيق ورقمنة فنون المديح النبوى فى مصر، أملًا فى اللحاق بما تبقى من هذا التراث الشعبى النادر.. الذى يميز المصريين عن منشدين ومداحين كثيرين فى مختلف العالم الإسلامى. 

ذهب أحمد برين وعبدالنبى الرنان والعطوانى وقبلهم عشرات من أسطوات هذا الفن، وتراثهم أصبح نهبًا لهواة الـ«يوتيوب» والسوشيال ميديا، الذين أهانوه وامتهنوه بقصد وبدون.. ولم يحاول أحدهم اللحاق بما تبقى من هذا الكنز المصرى الذى لا يعوَض.. سيقول أحدهم إن هناك قنوات متخصصة فى عالم المديح.. نعم هذا صحيح، لكنها قنوات بلا عقل.. ولا تعرف ماذا تفعل بما تملك؟.. تدلقه دلقًا لجمهور يشتاق ويتلهف ويحتاج، لكنه بعيد عن أدمغتنا وعيوننا. 

تحتاج حالة ياسين التهامى تحديدًا إلى دراسة كبيرة وجادة ومتخصصة.. وتحتاج ذاكرته وحفلاته إلى مَن يعيد تبويبها واستثمارها.. ويحتاج فنانونا الذين يؤدون هذا اللون البديع من الفن الشعبى المصرى إلى فرص مشابهة.. وأتمنى لو أن د. خالد داغر والمسئولين عن مهرجان «سماع» أعادوا توظيف هؤلاء المبدعين، وهم كُثر، إلى جانب ياسين فى الدورات المقبلة.