رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مؤشر التعايش وسند التلاحم

السلام الاجتماعي والسلم المجتمعي جوهر استقرار الأمم والشعوب ومرتكز نموها ومحور تنميتها.

سمة المجتمعات البشرية النمو والتطور والتحضر والتعايش في إطار علاقات بينية بين أفرادها، والوطن العربي له خصائص متقاربة ومتنوعة تربطها صلات متعددة وتجمعها قواسم مشتركة، ولكن.. هل يوجد مؤشر لقياس مستوى التعايش بين شعوب دول الوطن العربي على غِرار مؤشر دول الاتحاد الأوروبي وأستراليا؟                                          يرتبط الإنسان بمبادئ ثابتة وقيم راسخة وتقاليد وعادات يُرسخها المجتمع، ضمن منظومة قيم تكاملية لها ملامح فكرية ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، إضافة إلى نظام قيادي وإداري وآخر أمني ودفاعي وكذلك إعلامي وموروث شعبي، وحتى ما يتعلق بالذوق العام والقبول أو الرفض للسلوكيات السوية أو المستهجنة، كل ذلك يتشكل بحسب الشروط والظروف التي أرادها البناء الثقافي الذي يضع الأهداف والبناء الاجتماعي الذي يضع الوسائل لتحقيق تلك الأهداف، وبمقدار التوافق والانسجام أو الاختلاف والتناشز بينها يتحقق التقارب ويحصل التعايش والتلاحم للمنظومة المجتمعية.

يُشكل التلاحم الاجتماعي حجر الزاوية في بناء هوية المجتمع، الذي له خصائص متشابهة وأخرى متباينة، ليكون أكثر قوة وتماسكًا وتجاوزًا للتحديات والأزمات كون التلاحم مفتاح النجاح طويل الأجل والمرتكز المحوري للسلم الاجتماعي والسلام المجتمعي. المسارات الاستراتيجية للمجتمعات غالبًا ما تستجيب للتحديات والتحولات المجدولة والمفاجئة بمنهجية مرنة تتعامل مع كل المتغيرات بمهارة تتبع وتحاكي سلوك الأنشطة المجتمعية المختلفة وتُحفزها.

يعد مفهوم التعايش المظلة التي تستظل بها المجتمعات، والميثاق المتين الذي يجمع شمل الأمة من خلال الروابط التي تلتقط كل المعاني الإنسانية من بذل المعروف، والكشف عن السجايا الإيجابية لتفعيلها في تسليط الضوء على الزوايا الخفية، التي من الأرجح أن تساعد على الالتفاف حول المبادئ السامية والقيم النبيلة، وسمات التآخي والتراحم والتواد، وإشاعة الإيثار بين مختلف الأطياف التي عليها الاتصاف بالتسامح وحسن النوايا والسلوكيات وضبط النفس المستند إلى قواعد وقيم الدين والأخلاق، والتأسيس لفضاء مشترك بين كل الأطياف ومختلف الفئات.

تُشكل الأسرة نقطة البداية فى التكوين النفسي والسلوكي للفرد، وتعمل على بث السكينة والطمأنينة في نفس الطفل، وبناء الاتجاهات لمختلف التصورات عن المحسوسات المادية وموجهات السلوك الوجدانية في فضاء هذا الكون الواسع، وتسهم في تشكيل الحضارة الإنسانية، وإقامة العلاقات التعاونية بين الأفراد، وبناء القيم وتُرسيخ قواعد الآداب والأخلاق، وحفظ كثيرًا من التقاليد والحرف والصناعات التي تنتقل تلقائيًا من الآباء إلى الأبناء والأحفاد، وتعمل على حفظ التراث والموروث الثقافي. التنشئة الأسرية السوية تُشيع الاستقرار وتُرسخ لغة الإيثار والود والتراحم والتآخي، وتحذر من العنف والكراهية وتقي من الانحراف والتطرف والإرهاب، الذي مرجعيته غالبًا ما تكون إلى عدم الاستقرار الأسري وفقدان الحنان العاطفي.

التمكين من المشاركة التفاعلية بين أفراد المجتمع يكتسبها الفرد من الأسرة بداية إذا تعهدت الطفل بالحنان والعطف والرأفة وحب التعاون والتعايش. الإشراف والرعاية المباشرة للطفل من قبل الوالدين، والتي لا تقتصر على الصحة البدنية فحسب، ولكن تمتد إلى النمو الذهني والحس العاطفي وضبط الدوافع الإرادية وتناسقها. وفي هذا الإطار يستند تعزيز التعايش والتلاحم بين مختلف الفئات وشتى الأطياف على توسيع المشاركة في صنع القرار السياسي والاقتصادي، والتضمين السياسي والاجتماعي، وإعطاء مساحة أوسع لمنظمات المجتمع المدني، ومؤسسات حقوق الإنسان، وتدعيم قنوات الترابط الأسري، والمساواة في الحقوق والواجبات والتمكين بتساوي الفرص، والعدالة في توزيع الخدمات، والاهتمام بالشباب من الجنسين بتفعيل دورهم، والكشف عن إبداعاتهم بزيادة درجة المرونة في التعامل معهم، لاستيعاب الهزات والأزمات المصاحبة للتحضر والتغير المجتمعي التي تلامس حاجاتهم وتطلعاتهم.

إن تعزيز العلاقات الإيجابية وضمان الحقوق والتضمين تُعد حصانة حية، ومن أهم الأولويات للحفاظ على اللُحمة والاستقرار ضد انهيارات النظام الاجتماعي.

تُعد المرأة مصدر الإلهام ومنبع الإبداع ومكمن الحنان الذي يغذي روافد التعايش ويقوي أواصر التلاحم، وبدورها تسهم إسهامًا فعالًا في بناء وتشكيل شخصية الطفل، كما تعد عنصرًا مهمًا في تحفيز طاقاته وتوجيه سلوكه وترشيد انفعالاته التي ترسم رمزية قبوله للآخر، وتؤسس لهامش التعايش وحيز التلاحم الذي سيكون لاعبًا في مضماره.

يُسهم التعليم والتدريب والثقافة والإعلام وقادة الرأي ووسائل التواصل الاجتماعي في بناء اتجاهات إيجابية نحو التعايش والتلاحم، من خلال برامج تثقيف ورسائل توجيه لتنمية وتحفيز الممارسات الإيجابية لدى كل الفئات ومختلف الأطياف، لتجعل من التعايش ضرورة، ومن التلاحم غاية لتعيش المجتمعات الإنسانية في سلام اجتماعي ووئام مجتمعي.

شعوب الوطن العربي مثخنة بجراح الحروب وحصاد الخلافات ومُثقل جلها بمعاناة الفقر والعوز وشح الموارد وندرة فرص العمل وغلاء الأسعار، واتساع دائرة النزاعات العرقية والمذهبية والأزمات الاجتماعية والانعزالية القيادية وتصحر الأداء الإداري، وتوظيف القضايا والمشاهد العربية حتى من خارج البيت العربي، للقفز على الحقوق والحصول على مكاسب وتحقيق مصالح أو تمرير أجندات قد لا يخدم نتاجها غايات تلك القضايا والمصلحة الكلية للمجتمع العربي.

الحراك العربي يتطلع لمد جسور التعايش وقنوات التلاحم ضمن شعور عام يرتجي دورًا فاعلًا للمؤسسات الفكرية والثقافية والاجتماعية والمراكز البحثية العربية، لبناء مؤشرات قياس للتعايش تعتمد على مناهج البحث العلمي المتخصصة. ويهدف هذا المؤشر إلى قياس السلوكيات والتوجهات التي يُظهرها أفراد المجتمع ومؤسساته المختلفة في تعبيرهم عن الإحساس والمشاعر الفردية والجماعية نحو القضايا الجوهرية والتحديات الحرجة، التي سيقيسها المؤشر المنتظر. "مؤشر قياس التعايش العربي".