رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحديات مصر وأولوياتها الثقافية

ربما يكون قد آن الأوان في هذه المرحلة الالتفات بقوة لتحديات مصر الثقافية والفكرية، فبعد عمل ممنهج وشاق وتحقيق تقدم كبير في البنية التحتية والإصلاح فيما يمكن وصفه أو تشبيهه بالهاردوير، جاء الوقت للتركيز بدرجة أكبر مع التحديات الفكرية والثقافية، فخلق فرص عمل وتحقيق الأمن والاستقرار أمور عاجلة ومصيرية، ولكن التكوين الفكري والثقافي وبنية الوعي وتشكيله بالنسبة للعقل الجمعي المصري لا تقل في خطورتها وأهميتها وبخاصة في زمن أصبح هناك تفاعل واسع بين الدول والمجتمعات في التأثير الثقافي والفكري بفعل الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي والغزو المعرفي والفكري، ولذلك لا بد أن تكون لمصر استراتيجية ثقافية واضحة ومدروسة وممنهجة لا تختلف في وضوح ملامحها أو قسماتها وبخاصة من الناحية التنفيذية عما أنجزته الدولة مثلًا في ملف النقل والطرق.
صحيح أن الدولة كانت واعية من بعد 30 يونيو مباشرة إلى خطورة الغزو الإعلامي وحتمية إصلاح منظومتنا الإعلامية وتجديدها بشكل جذري، وقد أنجزت هذا على نحو ممتاز وبشكل عاجل بما يتناسب مع خطورة الإعلام في آثاره وأدواره، وصحيح كذلك أنها كانت واعية إلى أهمية بدء إصلاح جوهري في مجال التعليم، وأشهد أنها كذلك قد أنجزت فيه الكثير، وأنا على علم تام بتفاصيل هذا الإصلاح الجوهري سواء في وزارة التربية والتعليم والتغيير الجوهري في المناهج وأساليب الامتحانات وشكلها وأنماطها، أو في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، التي ركزت الدولة فيه على توجيهات مباشرة تخص أمرين في غاية الخطورة، هما شكل الامتحانات وضرورة أن يكون لها نظام ثابت لا يخضع للأهواء الفردية بحيث يكون الامتحان وسيلة لقياس مهارات متعددة ومخرجات تعليمية لا تقتصر على الحفظ كما كان في السابق في الأسئلة المقالية، بأن تتنوع الأسئلة بما يجعلها تقيس مهارات متنوعة ومخرجات تعليمية كثيرة تركز على بناء العقل وتشكيل شخصية الطالب وليس مجرد المعارف المحفوظة فقط. والأمر الثاني بجانب الإصلاح في منظومة الامتحانات في الجامعة، فكان التركيز على إصلاح منظومة النشر العلمي، وهو ما أسهم في ضبط هذه الساحة التي كانت مجالًا للفوضى والخلل الذي يؤثر على منظومة الترقي والتداول المعرفي. وأصلحت الدولة كذلك في مجال التعليم عمومًا منظومة المعرفة المتاحة عبر بنك المعرفة المصري، الذي يمثل طفرة معرفية رهيبة لمن يفحصها أو يتأملها.
لا ينفصل الحديث في الإصلاح الإعلامي والتعليمي عن الحديث في التحديات الثقافية والفكرية لمصر، فهي كلها ذات تداخل وتقاطع وتفاعل لا محدود ويصب بعضها في بعض، وذلك فإن جهود الدولة في كل هذه المجالات تحتاج إلى تتويج وإكمال يرتبط بعدد من المحاور بالغة الأهمية والخطورة، وأصبحت من الأولويات حتى يتحقق الاحتفاظ بالمكاسب التي حققتها الدولة المصرية في سبيل التقدم على طريق الجمهورية الجديدة وإنجاز كل استراتيجيتها في الإصلاح الشامل وتحقيق الاستدامة.
الثقافة في مفاهيمها وتصوراتها الأحدث تتصل بكل ما له علاقة بسلوك الإنسان وكل ما يمكن أن يكون مشغلًا له أو محركًا له من الأفكار والمعتقدات في مستوييها الواعي واللاواعي، والإنسان في المجتمعات يمر بمراحل للتشكيل والتكوين الفكري والذهني والثقافي، بما ينعكس على سلوكه، وكذلك يتعرض عبر هذه المراحل لعديد العوامل والمؤثرات التي تكون فاعلة في تشكيل وعيه أو تكوين ذهنه ومن ثم التأثير في سلوكه. إن نمط الإنسان المصري المستنير والمتحضر والتقدمي والمنفتح على العالم والمنتمي إلى ثقافته المصرية ومحيطه ويكون مشحونًا بقيم العمل والعطاء والسلام هو النموذج الذي يجب أن يمثل غاية لهذه الاستراتيجية الثقافية التي يجب أن يشتغل عليها المجتمع كله بشكل من التعاون وليس فقط الدولة، فلابد أن يكون هناك تكامل في الأدوار بين كل المؤسسات والجهات ذات التأثير حتى تتحقق هذه الغاية، فلا يكون هناك تعارض في الأدوار حتى نصل إلى النتيجة الصحيحة.
لا يمكن أن تتحقق الأهداف الثقافية الصحيحة والاستراتيجية الدقيقة لتشكيل نموذج الإنسان المصري بصورته العصرية المتحضرة إلا عبر إحداث تكامل حقيقي وواع– بل في أقصى درجات الوعي– بين الوزارات والجهات المختلفة، فيكون هناك تكامل في الأدوار بين المؤسسات الثقافية والمؤسسات التعليمية والإعلام بوسائله وأدواته المختلفة مع الفن بأشكاله وأنماطه المتنوعة مع الخطابين الديني والسياسي كذلك، فيكون هناك تكامل في الشكل والمضمون بين الفن، وتتحد إلى حد كبير من حيث الجوهر أدوار خطبة الجمعة مثلًا مع الأعمال الفنية في أن تكون كلها قاصدة إلى بث قيم التحضر والعلم والعقلانية والرقي والعمل والانتماء واحترام الآخر، وغيرها من القيم الإنسانية الإيجابية التي تؤدي دورها في إنتاج سلوك إنساني حضاري ينعكس على مراحل الإنتاج وينعكس على عمليات التنمية والإصلاح الاقتصادي.
وبالاقتراب قليلًا من الواقع الفعلي، يمكن أن نضرب مثلًا بأن قيم الاستهلاك الغذائي مثلًا تتأثر بعوامل ثقافية كثيرة قد لا تكون ذات اتصال مباشر مع المؤسسات الثقافية، فتكون خاضعة مثلًا للخطاب الإعلامي المحلي أو الدولي، فعلى سبيل التمثيل ربما تشكل برامج الطبخ شكلًا من أشكال الغزو الثقافي المدمرة أو ذات الخطورة الكبيرة على مستويات نفسية وسلوكية ترتبط بثقافة الغذاء أو استهلاك الأطعمة والتعامل معها، فبعض أشكال الغزو عبر برامج الطبخ واستيراد قيم وطرق تتصل بالطبخ والغذاء من بيئات أخرى قد يكون مدمرًا على المديين القصير والطويل، إذ قد تحمل بعض البرامج تغيرًا كاملًا في نمط الاستهلاك أو في أنماط الاعتياد والتقاليد المصرية، أو تجعلنا نركز على سلعة استراتيجية معينة في وقت خطر أو صراع عالمي مثل الدقيق والسكر في مطابخ الحلويات، وهذا الغزو بدوره ربما ينعكس على الحالة الصحية العامة أو يتسبب في إحداث تغير كامل في عادات التغذية، بما يشكل خطرًا صحيًا معينًا ويعيد خريطة الأمراض السارية، إذ من البديهي ارتباط الحالة الصحية العامة في المجتمع بأنماط التغذية، والجوانب الصحية هي الأخرى مؤثرة في أنماط العمل والحركة والمزاج العام، فضلًا عن مخاطر تشكيل الهوية الوطنية والانتماء، إذ قد ينسحب المواطن أو المشاهد/ المتلقي لبعض البرامج إلى أرضية جديدة وثقافة جديدة، وينتمي لها بتأثير من حبه لمطبخ دولة معينة أو ثقافة معينة، ويتصور أنها أكثر تحضرًا أو أكثر تقدمًا أو أكثر رفاهية من المطبخ المصري، في حين أن ذلك في الأساس مجرد حالة مصطنعة أو هي نتاج حالة إعلامية مقصود فيها التأثير وتشكيل هذه الرسالة وبثها بشكل ناعم، فتتغلغل في وجدان المتلقي ومشاعره دون وعي أو دون تنبه لخطورتها على مدى الطويل عبر التراكمات، ونحن جميعًا مع هذا المتلقي في حال من الغفلة أو الاعتقاد بأنها مجرد حالات يومية عابرة أو ليست ذات خطورة أو تأثير.
في الوقت الحالي أصبح العالم يركز بدرجة أكبر في الوسائط الثقافية ذات التأثير الناعم أو غير الملحوظ، أي تلك التي تصنع تحولًا كبيرًا في التشكيل الثقافي والفكري لمجتمعات معينة دون أن يشعروا بهذا التحول، بمعنى أن الوسيط الثقافي المعين يكتسب قيمته وخطورته بقدر ما يكون غير مباشر في أدواره، ولذلك فقد أصبح هناك تعمد لأن تكون الرسائل السياسية مضمنة في خطابات غير سياسية أو ليست سياسية بشكل مباشر من حيث شكلها أو تصنيفها الأساسي، فتكون الرسالة السياسية مبثوثة في عمل فني ودون لغة سياسية مباشرة، بل عبر الإسقاط أو التلميح أو عبر وسيط ثالث غير سياسي من الأساس، بعض الأعمال الفنية مثلًا من خلال أنماط السلوك اليومي أو الحياة اليومية تشكل رسالة عن الطبقية أو تبث لدى المواطن حالًا من الشعور بالفوضى والتهدم من حوله، أو تتعمد مثلًا تغييب الدولة أو مظاهرها، وكأن المؤسسات ليس لها حضور في حياته، بما تكون لها آثار نفسية في غاية الخطورة والأهمية وبخاصة إذا اعتبرنا عامل التراكم، بمعنى أن بعض هذه الأنواع من الخطابات غير المباشرة تركز على عامل الإلحاح وعلى التكرار، إذ يتحول عقل المتلقي مع الوقت إلى إسفنجة تمتص الرسائل والإدراكيات بشكل لا واع. فيمكن مثلًا لعمل درامي كوميدي، يبدو في غاية البراءة من الناحية السطحية، أن يشتغل على تدمير الانتماء وتعميق شعور الإنسان المصري بالفوضى مثلًا أو إشعاره بالفراغ وأنه يكافح ويجابه بمفرده دون أي عون من أي مؤسسات سواء أمنية أو تعليمية أو غيرها من المؤسسات، وكله بحسب عبقرية الكاتب وقدر وعيه أو يقظته لهذه التوظيفات الحديثة للفن، والحقيقة أن هناك الكثير من هؤلاء في حياتنا وربما يكون بعضهم مستغلًا من منتجين أو من جهات إنتاج معينة دون أن يدروا وينخرطوا في أعمال تكون ذات تأثير سلبي.
قد يتصور بعض السطحيين أن كلامي يمثل تقييدًا كاملًا للفن أو حصارًا له، والحقيقة أنه ليس أكثر من تذكير بما اقتنع به العالم المتقدم كله في كل عصوره ومراحله من أن حرية الفن ليست مطلقة، وأن الفن يمكن أن يؤدي أدوارًا تخريبية كثيرة، وامتد هذا الحدث عن أثر الفن أو الأدب التخريبي بداية من أفلاطون الذي تحدث عن إمكانية إبعاد الشعراء عن مدينته الفاضلة لأنهم يتجاوزون الحقيقة الكاملة أو المطلقة، وأن الخيال يمثل نقضًا ونقيضًا للحقيقة، ثم تطور المصطلح في النقد الإنجليزي في العصر الحديث الذي يؤشر نحو أنماط عديدة من التخريب بالأدب، وازدهر في هذا المبحث مصطلح subversion by literature أي التخريب عبر الأدب أو الأدب التخريبي، لأن أي خطاب في النهاية هو عامل من عوامل تشكيل الوعي، مثلما يمكن ونلمس أن تكون هناك خطب دينية متطرفة أو تتجه مثلًا إلى مفاهيم مضللة وتجند الشباب لخدمة مشاريع وهمية وتجعلهم مفعمين بالسلوك الإرهابى ويفجرون أنفسهم، فيمكن لعمل يبدو في ظاهره فنيًا أو أدبيًا أن يؤدي هذا الدور نفسه وبشكل أكثر نعومة وأكثر تدرجًا وأكثر قدرة على مغافلتنا والتسلل إلى العقل الجمعي في حالة من التنكر أو التخفي الكامل. 
وفي ظل هذه المخاطر والتحديات الثقافية الكبرى التي يمكن أن تهدد قيم الانتماء والتحضر والتقدم العلمي والعقلي والمعرفي يصبح من الحتمي أن تكون للدولة استراتيجية ثقافية جديدة تتناسب مع هذه التحديات، والأهم أن تتسم هذه الاستراتيجية بالقابلية للتنفيذ، وأن تكون ابنة الواقع ويتم تفصيلها بناء على معطياته ومحدداته التي يجب دراستها بدقة وعمق.