رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنا شفتك فى التليفزيون

كنت وأنا فى العاشرة من عمرى أحصل على مصروف لا يتجاوز الخمسة قروش، حسب الظروف، مرة فى الأسبوع، أو مرة كل عشرة أيام، أو لا أحصل عليه أصلاً، لأن العين بصيرة واليد قصيرة، فقد كنا عشرة أشخاص فى الشقة، نعيش معًا، أنا وإخوتى الخمسة، وأمى، وخالى الذى طرده جدى فلجأ إلينا ليكمل تعليمه، علاوة على طفلين صغيرين هما ابنا خالى الثانى الذى تم اعتقاله، فألحقتهما أمى بالحشد الجماهيرى الذى تولى رعايتهما.

ولكى أنتزع القروش الخمسة التى نادرًا ما كنت أراها، هدانى تفكيرى إلى أن أربط على خصرى دورقًا كبيرًا به ماء مُحلى بعسل أسود، وبيدى الأخرى كوب فارغ، ثم أطوف بتلك البضاعة على إخوتى أقرع الدورق الزجاجى بملعقة هاتفًا فيهم: «عرقسوس يا أولاد.. الكوب بقرش». 

وما زلت حتى هذه اللحظة لا أدرى أكانوا يشترون المياه لأنهم يتخيلون حقًا أنه عرقسوس، أم أنها كانت حسنة قليلة للأخ الغلبان، على أى حال ما إن تصبح القروش فى يدى أفك الدورق عن خصرى وأنطلق إلى سينما الشرق المجاورة لبيتنا فى السيدة، أشترى تذكرة درجة ثالثة «ترسو» بثلاثة قروش، وأظل قابضًا على القرشين بيد من حديد.

فى ترسو السينما لم تكن ثمة مقاعد، لكن دكة طويلة، واحدة وراء أخرى، لا يشغلها سوى عيال من كل أنحاء الفقر، وكان العثور على مكان مستحيلًا. أقف قليلًا حتى يلمحنى الشاب بلطجى الترسو، فيقترب منى ويقول: «عاوز تقعد يا واد؟». أتمتم بأمل: «نعم». يبسط يده ويقول: «هات قرش». أعطه القرش، وأراه يجلس على طرف دكة ويضرب بمؤخرته الجالسين فيزيحهم مسافة، وينفسح مكان لى فأجلس، وفى المقابل كان هناك فى الطرف الآخر من الدكة عيل يقع على الأرض من شدة الضربة! أتفرج على الفيلم الأمريكى، وأنا أتزحزح كل شوية جراء ضربات البلطجى، وحين بدأ فيلم «بين الأطلال» وجدت نفسى فى نهاية الدكة ثم واقعًا منها على الأرض. أنهض وأعود إلى البلطجى فى صمت وأناوله القرش الأخير، فيقوم بنفس العملية. ولم يمنعنى سقوطى ونهوضى من متابعة الفيلم، بل تأثرت جدًا بمشهد عماد حمدى، وهو جالس يسكر ويقول: «أنا باسكر عشان أنسى». 

عدت إلى البيت، وفى اليوم التالى وجدتنى أمى جالسًا إلى منضدة، ورأسى محنى على قدح مياه أمامى، فسألتنى بقلق: «مالك يا ابنى؟». قلت لها وإمارات الأسى على وجهى: «مفيش.. أنا باسكر عشان أنسى». 

وتطورت موهبة تقمص الشخصيات الصغيرة حين أديت فى تمثيلية بالتليفزيون دورًا صغيرًا، صغيرًا جدًا، مجرد شخص عابر فى مشهد ولا ينطق كلمة، وكنت أيامها متعلقًا بابنة الجيران التى لم تنتبه إلى وجودى أو مشاعرى قط، لكن تصادف أنها شاهدتنى فى تلك التمثيلية فى التليفزيون، فإذا بها تلهث ورائى على سلم العمارة، وتمسك يدى بحرارة وتكاد تقبلنى، هاتفة: «أحمد أنا شفتك فى التليفزيون»! كنت مذهولًا ولا أصدق أن القمر نفسه نزل من سمائه وكلمنى، مع ذلك تمالكت نفسى وقلت بأدب وتواضع النجوم الكبار: «ده دور بسيط.. لكن بعد كده ح أبقى أدقق فى السيناريو». إلا أن شخصية بائع العرقسوس، وشخصية السكير الذى يريد أن ينسى ما لا يذكره، والشخص الذى عبر لحظة فى مشهد بالتليفزيون، كل هذا سرعان ما اختبأ وتوارى فى غيابة من غيابات الزمن المهول. تختفى الحياة ولا يبقى سوى حياة الحكايات.