رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف أصبحت «البلاهة» باب رزق لا يخيب؟!

لم يعد الهاتف مجرد وسيلة اتصال تعمل على تقريب المسافات، وتنسيق المواعيد، والاطمئنان على الغائب، أو أى من المسائل التى تحسمها محادثة هاتفية، طارئة أو غير طارئة، وخلال سنوات معدودة، صار بإمكانه التصوير، والكتابة، والحذف والإضافة، فتحول إلى وسيلة لإنتاج الأخبار والتقارير وبثها، أو البحث عن المعلومات، وتدقيقها، ثم سرعان ما دخلت عليه أدوات الترفيه وقضاء الوقت، فظهرت الألعاب الجماعية والفردية، والعابرة للمحيطات، وتحولت شاشته إلى مساحة عرض لمشاهدة الأفلام أو المسلسلات، ومتابعة العروض، ومنها إلى عالم التجارة والأعمال، فبدأ من تسهيل حجوزات الفنادق وتذاكر الطيران والرحلات إلى أى وجهة على سطح الأرض، ومنها إلى البيع والشراء وإنشاء المتاجر الإلكترونية، وصولًا إلى ما بدأ الإعلان عنه فى الشهور الأخيرة من أدوات الذكاء الاصطناعى التى يمكنها كتابة الشعر والرواية، وتقليد الأصوات والصور، وتحريكها فى الزمان والمكان.. باختصار صار الهاتف بديلًا عن كل شىء يمكن أن يحتاجه الإنسان، ووسيلة لتعويضه عن كل ما ينقصه، حتى العلاقات العاطفية، أصبح طرفًا فاعلًا فيها، لا كوسيط كما فى تطبيقات «المواعدة» الشهيرة والكثيرة، ولكن كبديل عن الطرف الآخر كما تنبأ به الفيلم الأمريكى «هير» أو «هى» الذى أُنتج عام ٢٠١٣، وقام ببطولته كل من خواكين فونكس، وسكارليت جوهانسون.. 

ربما كان الهدف الأصلى من كل تلك التطبيقات هو تطويع التكنولوجيا الحديثة لخدمة الإنسان، لتنفيذ رغباته، وتسهيل تحركاته، وتوفير كل ما يحتاج إليه، حتى ولو كانت مسألة عاطفية، أو حاجة نفسية.. وأغلب الظن أنه هدف لا بأس به، ولا غبار عليه، أو عيب، لكن ما حدث هو ما قلب المعادلة، وأدى إلى تحول جذرى وخطير فيما أضافه عنصر «الذكاء» إلى الهواتف المحمولة، إذ صار الهاتف بديلًا عن الحياة، ومعادلًا لها، بكل تفاصيلها، ومفرداتها، وصار الإنسان معزولًا وحيدًا مع شاشة صغيرة تنتصب قدام عينيه، فلا يرفعهما عنها، ولا تغادرانها إلا لكى تعاودا التحديق فيها، فكانت النتيجة الطبيعية والمتوقعة هى اختفاء كل علامات الحياة الطبيعية، وانسحابها تمامًا، وكأنه لم يعد للإنسان غير تلك الحياة الافتراضية التى أغرقته فى تفاصيلها، وزحام ما تعرضه عليه وتلاحقه به.

صار من النادر أن تسير فى الشارع فيصادفك من خرج للاستمتاع بنسمة هواء نقية أو طازجة، أو تجلس بجوار اثنين يتجاذبان أطراف الحديث، أو يتبادلان الرأى فى مسألة مهمة، الكل يسير بينما عيناه معلقتان بشاشة الهاتف، إما يطارد ثعبانًا افتراضيًا، أو يحارب أعداءً لا وجود لهم ولا أصل، أو يبنى مزرعة أو حيًا سكنيًا من الرسوم المتحركة، أو يتجول فى قرية متخيلة، يدخلها «الوحيدون» من جميع أنحاء العالم، ويتبادلون فيها الأحاديث و«القبلات» وزيارات غرف النوم.. لا يتوقفون عن اللعب إلا لتقليب صفحات مواقع التواصل الاجتماعى، للفرجة على ما تيسر من صور، أو مقاطع فيديو قصيرة، والتى تتسم فى غالبيتها بالبلاهة المفرطة، ليس لعيب فى منتجها، بل فى متلقيها للأسف، فغالب الظن أن تلك الحالة البلهاء يتم اصطناعها لجذب أكبر عدد ممكن من المشاهدات والزيارات ما يتم ترجمته فى صورة أموال تدخل جيوب منتجى تلك التفاهات التى يعرفون جيدًا أنها أسهل وسيلة لجذب العيون والمشاهدات، يعرفون جيدًا أن من يشاهد الفيديو سوف يضحك سخرية منهم، وربما يسبهم، أو «يتريق عليهم»، لكنهم يعرفون أيضًا أنه سوف يرسل الفيديو إلى أصدقائه ومعارفه وزملائه فى العمل، مصحوبًا بعبارات منتقاة من السباب أو «التريقة» والاستخفاف بمن يظهرون فيه، وكأنه هو الذكى اللماح الذى يعلو على تلك البلاهة، ويرسلها مسبوقة بكلمة لا يريد منتجو تلك النوعية من الفيديوهات سواها، فهى الكلمة السحرية التى تفتح لهم خزائن «تيك توك» و«يوتيوب» و«سناب شات» وغيرها من التطبيقات.. «شوف»، أو «شاهد»، دون أن يدرى أنهم هم من يسخرون منه ومن أصدقائه ومعارفه وزملائه فى العمل، هؤلاء الذين يقضون يومهم فى توفير «ثمن الباقة» التى ينفقونها فى الفرجة عليهم، وسبهم والتريقة عليهم، جاهلين أنه يضاف إلى ميزان أرصدتهم، وعداد مشاهداتهم.. 

ربما كان ما فعله المطرب الشعبى الراحل شعبان عبدالرحيم هو أوضح مثال لما يفعله الآن «اليوتيوبرز» أو «التيك توكرز» أو غيرهما.. اعتمد شعبان فى حضوره الغنائى والفنى على نموذج الشخص «الهلهلى» العبثى، الذى يتصرف على طبيعته، ووفق بيئته الشعبية، مع بعض اللمسات «الكاريكاتورية» المضحكة، والتى كان يعلم جيدًا أنها «بتاكل» مع عموم المصريين وغير المصريين، وتفتح شهيتهم للضحك والسخرية، لا فارق عنده إن كانت السخرية من كلماته، أم من مظهره، أم من غنائه.. المهم أن يعرفه الناس، وتصيبه الشهرة، وأن يشاهد فيديوهاته أكبر قدر ممكن من البشر، وليكن بعد ذلك ما يكون، طالما تتم ترجمة تلك السخرية أو «التريقة» إلى تدفقات نقدية تدخل فى أرصدته.. باختصار شديد، كان ربح شعبان من المبالغة فى البلاهة، وكان «الاستظراف» هو طريقه الذى سار عليه حتى يومه الأخير، أما إذا شئت الدقة، فإن ما كان يفعله شعبان عبدالرحيم، ويفعله الآن «حمو بيكا» وأمثاله، لم يكن من أشكال «البلاهة» ولا «الاستظراف» بأى حالٍ من الأحوال، بل هو «استعباط» شديد الوضوح، ومع سبق الإصرار والترصد، وهو من حيث لا تدرى «باب رزق» لا يخيب.. وأنت من يدفع تكاليفه وأرباحه، وتساعده على الاستمرار.