رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللغة والاستدلال على المعنى

من ضمن ما كتبه شاعر المهجر اللبنانى العظيم جبران خليل جبران ملاحظة قصيرة مهمة يقول فيها: «بين منطوق لم يقصد، ومقصود لم ينطق، يضيع الكثير من المحبة». وهذا ما نلاحظه فى حياتنا اليومية لكننا لا نتوقف عنده، فإذا قمنا بتعميم وتوسيع نطاق فكرة جبران، سنجد أنها تشتمل على الكثير من جوانب أحاديثنا وموضوعات تلك الأحاديث التى تتأرجح فى المخاطبة بين منطوق لم يقصد ومقصود لم ينطق. والمعروف أن دور اللغة الرئيسى نقل الأفكار والمشاعر، لكن كثيرًا ما تقوم اللغة بدور آخر مختلف تمامًا حين تخفى المشاعر بدلًا من توضيحها. وقد يلاحظ معظمنا أننا باللغة قد نقول ما نقصده، أو نقصد أبعد مما نقوله، أو نقول شيئًا ونحن نعنى شيئًا آخر، بل قد نقصد عكس ما نقول! وعلى سبيل المثال فإن العبارة المصرية الشهيرة: «سكة السلامة يا حبيبى»، قد تعنى أمنية طيبة، أو على العكس فإنها قد تضمر التهكم بمعنى: «اذهب الله لا يرجعك». وقد تحولت ملاحظة جبران بعد وفاته فى ١٩٣١ إلى مفهوم فلسفى يسمى: «المعنى فى الاستخدام» يدرس مقاصد المتكلم ونواياه التى قد لا تتطابق نهائيًا مع كلمات الخطاب الحرفية. وقد بدأت تلك الدراسات على يد المفكر النمساوى البريطانى لودفيج فتجنشتين فى كتابه «رسالة منطقية فلسفية» الصادر فى ١٩٢١، وفيه يطرح الكاتب أن اللغة: «ليست نوعًا من الخيال، لكنها ظاهرة مكانية وزمانية»، أى أن معنى الكلام مرتبط بالظروف والمكان والشخص الذى يدلى به، أو كما يقول الكاتب فإن المعنى «فى الاستخدام، وليس خارجه»، ومن ثم فإننا حسب الظروف قد نفهم كلمة: «أهلًا وسهلًا» على أنها ترحيب أو على العكس على أنها دلالة نفور. ولاحقًا التقط هذا الخيط وقام بتطويره فيلسوف اللغة البريطانى بول جرايس الذى توفى ١٩٨٨، وبدأ أبحاثه فى ذلك المجال الفريد بعدة محاضرات فى جامعة هارفارد ١٩٦٧ عن : «مقاصد المتكلم ونواياه». وحسب بول جرايس فإن التخاطب لا يعتمد على معانى الكلمات المتعارف عليها، بل على كيفية استخدامها وتفسيرها فى ضوء المكان والظروف والشخص الذى يتلفظ بها ونواياه. وهكذا طرح جرايس عدة مفاهيم جديدة تتقدمها فكرة التضمين الخطابى، والاستدلال على المعنى فى اللغة. وبينما لم ينشر فتجنشتين سوى كتاب واحد فى ذلك هو «رسالة منطقية فلسفية»، فإن بول جرايس أغنى المكتبة بالعديد من الأبحاث التى فتحت أفقًا جديدًا للتعامل مع اللغة من زاوية جديدة بفضل مقالاته عن «المعنى» التى نشرت ١٩٥٧، و«المنطق والمحادثة» وكتاب «دراسات فى الكلمات» الصادر عام ١٩٨٩ بعد وفاته، وبتلك الأبحاث أصبح الفارق بين المنطوق والمقصود علمًا قائمًا بذاته. 

جدير بالذكر أننا على أعتاب ذكرى رحيل بول جرايس الذى فارقنا فى ٢٨ أغسطس ١٩٨٨ بعد أن أبحر طويلًا فى الفرق بين ما نقوله وما نقصده.