رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نار .. ونور

 كل ليلة أنام وأنا أهمس لوسادتى الممتلئة بالأسرار: "سأظل بألف خير طالما أننى أستطيع تحويل الألم إلى قصائد". 
يلازمنى الألم منذ كنت جنينا فى بطن أمى. كنت أدرك مسبقا، حقيقة الحياة التى سأخرج إليها. 
تأكدت وأمى تقطع الحبل السُرى بيننا، أن بينى وبين الحياة حبلا مصنوعا من الألم، لامفر منه إلا باحتضانه، ومصادقته.  
ومع مرور الوقت ، كانت مهمتى أن أسبر أغوار الألم ، وأن أفكك عناصره، وأفهم مكوناته. 
لم ينسنى الألم يوما واحدا، وأنا أشكره على هذا الوفاء.                 
لقد عانقت سحابات من الجمال، لكننى لم أمطر، ولم أذق نشوة التحليق، إلا حينما امتزجت، واحتفيت، بلحظات الألم. 
 بل إننى أدركت، أن كل متعة حقيقية، لا تستطيع الدخول إلينا، إلا إذا أخذت "تأشيرة " معتمدة، من الألم. 
لا شىء يؤهلنا لمعرفة، وتذوق الجمال، مثل ألم، تنزف له الروح، وتضطرب معه كيمياء الجسد، ألم  يعتصر الكيان ويأبى إلا أن نشرب حتى الثمالة، رشفات المرارة.
الألم ، ليس عضوا غريبا ، ينمو فى جسد الحياة، إنه "القماشة" المتجددة، التى صنعت نسيج الحياة فى اتقان مبدع.  الألم إذاً هو قدر البشر. 
      تكمن مشكلة الإنسان، فى كل زمان ومكان، فى محاولته المستمرة للهروب من نصيبه الطبيعى، من جرعة الألم، مدفوعا بقناعة خاطئة، أن الحياة بدون ألم أجمل . 
     لكننى أعتقد أن الحياة الخالية من الألم حياة لا طعم لها. 
وإذا كان الألم هو المادة الخام، أو النسيج الطبيعى اختارته الحياة لتصنع مأساتها النبيلة، فإن تفادى الألم يعد خيانة عظمى للحياة .
إن الشخص الذى ينتحر، يقول : "ألم الحياة أكثر مما أحتمل". 
وأكثر الناس يريدون الحياة بشروطهم هم لا بشروط الحياة، يريدون حياة
هاجرت من وطن الألم، وهذا مستحيل، مثلهم  كمنْ يريد للطائر التحليق شريطة
أن يقص جناحيه. 
إن الرغبة فى استبعاد الألم ليست فقط خيانة للحياة، ولكنها أيضا خيانة
لأنفسنا، فقط الألم يكشف عن طاقاتنا الكامنة وعن قدراتنا المختبئة.
و المفارقة المدهشة أنه كلما ازداد الألم كلما ازدادت عظمة ما نكتشفه.  
الألم "نار" تحرق النفوس الضئيلة الخاوية و"نور" يضىء النفوس الممتلئة. 
إذن الهروب من الألم ضرر جسيم.
تجارب الألم تجعلنا نعيد ترتيب الأشياء وتجبرنا على إعادة تأمل الحياة، وكيف نعيد الانتماء إليها والخروج بصياغة جديدة تقوينا تسعدنا وتمنحنا الحكمة.  
من تجاربى الخاصة مع الألم ، أقول إن كل الأشياء "الجميلة"، تنطوى على قدر ما من الألم، المنظر الجميل مؤلم، الذكريات الجميلة مؤلمة، الفن الجميل مؤلم، والإنسان الجميل مؤلم، والحب الجميل مؤلم.
علمتنى الحياة  ألا أخاف لحظات الألم، علمتنى أن أفتح لها الباب، أحسن استضافتها، أتعطر، وأرتدى لها أجمل أثوابى، أجالسها وأشرب معها نخب زيارة، لست من الحماقة أو التطفل لأردها.
الإنسان القادر على التألم العظيم هو وحده القادر على الإحساس العظيم، هو المثقف الأكبر  والمتحضر الأرقى القادر على إعطاء الآخرين إضافة حقيقية من المعرفة والمحبة والفرح.  
إننى أتحمل الألم من أجل سعادتى القادمة، منْ لا يتألم لا يمكنه الإحساس بالسعادة. 
الألم أهون من اليأس الذى يدمر إرادة الإنسان، ويخدعه أن كل شىء باطل، لا نفع ولا جدوى من ورائه. 
   بطاقة الألم الشخصية، هى أصدق تعبير عن داخلنا وعلاقتنا بأنفسنا وبالحياة.
فالألم يفضح منْ نكون وكيف سنصبح فى المستقبل، كل ما نخفيه يظهره الألم بكل سلاسة، كما المرآة.
   ولا أعرف لماذا لا يوجد "اليوم العالمى للألم"؟  يوم نتذكر فيه الإضافات الجميلة التى شعرنا بها بعد تحمل الألم . ونتشارك تجاربنا الحميمة مع الألم فتزداد قدرتنا على مواجهة الألم وفهم دوره فى النفس البشرية.

من بستان قصائدى 
--------------------------- 
      لترتفع كما تشاء
      درجات الحرارة 
      أبدا لن أحتمى      
      بـ"ضل راجل"