رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيزيس تستعيد غناءها فى ليالى العلمين

يخطئ مَن يتعامل مع أنغام على اعتبار أنها مجرد مطربة مصرية تمرح كما تشاء على خشبة المسرح.. يخطئ مَن يناقش كيف التهمت هذه المصرية العنيدة مرفوعة الرأس والجبين الحيّات والأفاعى بسحرها القديم الذى استعارته مع الهارب من المعابد القديمة.. أنغام الآن حالة مصرية تعبر عن نفسها فى لحظة تجلٍّ.. هى باختصار تكتب تاريخًا جديدًا للغناء المصرى، وربما كان حفل العلمين هو أول السطر فى ذلك الكتاب الجديد. 

أتامل هؤلاء المنبهرين بأداء رفيع المستوى لمطربة تعرف ماذا تفعل وهى تقبض على حروف رسالتها التى كتبها بذكاء شديد بهاء الدين محمد، وهو يعرف أن هذه الحنجرة ليست مجرد مركب يسوسها صياد ماهر يحوّل تلك الحروف العادية إلى صدف ولؤلؤ ومرجان فى لحظة ثم يعيدها ذهبًا نقيًا خالصًا فى اللحظة التالية.. لم تبهرنى تلك المراوغات المرعبة لحنجرة سالكة فى هواء مسرح مكشوف يعاند الصحراء ورياحها قبل أن يعاند تنويعات إيهاب عبدالواحد وذلك الهارمونى البديع فى تلك الأغنية من أول نوتة وحتى النفس الأخير قبل سكوت الإيقاع.. لم يبهرنى ذلك لأن مَن يتابع أنغام منذ سنوات يدرك أنها تجاوزت فكرة استعراض مهارات صوتها.. هى لا تفكر فى ذلك.. على المسرح هى سيدته من أول ثانية.. وكأنها ممثلة تؤدى أدوار إيزيس وكليوباترا وإياح حتب ورابعة العدوية معًا.. فى لحظة واحدة.. أنغام السيدة البدوية التى تعرف أنها العايقة التى وصفها عصام عبدالله بالوحدانية ليست وحدانية أبدًا.. لقد راهنت منذ نهاية تسعينيات القرن الماضى وهى تغادر طفولة عاشقة على أنها ستختصر نساء العالم فى حنجرة وقد فعلت.. هى الآن فقط تعلن عن أن مَن يُرد أن يقرأ تاريخًا جديدًا للغناء المصرى بكل تفاصيله.. هزائمه وانتصاراته.. أحزانه وأفراحه.. عناده واستجاباته.. مرحه ودلع صباياه.. تجليات الأنثى فى ربيعها وخريفها.. مَن يُرد أن يقرأ ذلك التاريخ فليأتِ إلى هنا حيث تقف امراة مصرية جديدة على مسرحها تغازل تجليها فى منتصف ليل ساحلى مبهج.. أنغام الآن تمرح مثل طفلة تزينت صباح يوم عيد وتريد أن يمرح العالم معها فقد اكتشفت كنزها.. وها هى تلقى بهداياها على من آمن بانتصارها.. انتصارها على كل ما هو قبيح ردىء قليل لا يليق بمصر.

مَن أراد أن يعلن عن أن أنغام صوت مصر لا يصادر على مواهبها كما يتصور البعض.. ولا يمكن اختزال التسمية فى حسم صراع مطربتين أو أكثر من بنات مصر مع أنغام.. كل صوت مصرى يفعل ما تفعله أنغام هو صوت مصر.. هو عنوانها.. أنغام لم تغنِ يومًا مفردة مبتذلة.. لم تسمح لصوتها بأن يستعيره ملحنو الموضة.. لم تلهث خلف سراب ولم تركب الترند طمعًا فى هوجة مؤقتة.. ما يقرب من عشرين ألبومًا كل منها يحكى فصلًا لفتاة تقفز إلى الأمام دون أن تنسى لحظة أنها ترتدى بُردة مصرية.. سارت باتجاه الغرب تخطف مما أتاهم الله من موسيقات جديدة، لكنها فى كل مرة تعيد تلك النغمات إلى أصولها المصرية، وكان الهارب الذى استعادته من موسيقانا المنقوشة على جدران معابد الجنوب يحدد خطوط سيرها.. لم يكن كل ذلك النجاح صدفة.. مَن يقرأ سيرة أنغام جيدًا يعرف أن ابنة الكونسرفتوار لم تستجب لأسوار الأكاديمية.. لم يستطع أحدهم أن يحصرها فى حدود خاتم المرسلين.. لقد غيرت وردة الجزائرية فى لحظة ما خارطة النجاح فى ساحة الغناء مطلع تسعينيات القرن الماضى بألبوم «بتونس بيك» وإيقاعاته الراقصة وموسيقاه الشرقية التى تستعيد أجواء صنعها بليغ حمدى قبلها بثلاثين سنة.. وجرى المطربون خلفها جميعهم.. وكان غناؤهم جميعًا جميلًا ومبهجًا... فماذا فعلت أنغام؟.. اختارت أن تكمل ما بدأت.. راحت تفتش فى أوراق وائل هلال وعصام عبدالله وجمال بخيت.. ونوت أمير عبدالمجيد ورياض الهمشرى وشريف تاج.. وعينها على بيروت وشجرة أرز حفرت اسم فيروز فى قلبها.. أم كلثوم وعبدالوهاب والسنباطى وبليغ وسيد مكاوى ومحمود الشريف.. الموجى والطويل ومحمد على سليمان وعمار الشريعى، كل هؤلاء امتصتهم تلك الحنجرة المرعبة وراحت تفتش عن الجديد.. راحت تفتش عن أنغام.. هى ليست نغمًا واحدًا... بل أنغامًا.. لا أعرف إن كان ذلك المعنى قد خطر على المطربة السكندرية التى احتوت ذلك البحر فى رحِمها كانت تعرف وهى تختار اسم مولودتها أنها تعنى أنها ليست نغمًا واحدًا بل أنغامًا متعددة أم لا.. ذلك التعدد لا يعنى الشتات بل يعنى التنوع وهذا ما فعلته أنغام.. كان من الممكن أن تخسر موقعها الذى احتلته مبكرًا.. لكنها لم تكترث.. كان هدفها أبعد.. وعنوانها سيجمع الكل فى واحد.. مَن يقرأ سيرة أنغام سيرى اختلافًا مدهشًا فى موسيقى عمار الشريعى فى تتر مسلسل العائلة عن مسلسل «حديث الصباح والمساء».. وسيشعر بأن مَن تغنى هى ليست امرأة واحدة.. يظن البعض أن الدراما هى السبب.. أو أن صوت أنغام اختلف لفارق السنوات.. وهذا ليس حقيقيًا على الإطلاق.. لقد منح الله هذه الحنجرة الحريرية قدرة غير محدودة على التنوع والتمدد والانكماش.. حنجرة حريرية تسمح لمن يتعامل موسيقيًا معها بأن يفعل ما يشاء.. هذه القدرة احتاجت إلى عشرات الشعراء لكتابة خطوط مغايرة بلغة مغايرة، وهذا ما أدركته هذه السيدة مبكرًا.. مَن تغنى لأمل دنقل تعرف جيدًا كيف تستلب من نادر عبدالله وهند القاضى وفاطمة جعفر وبهاء الدين محمد أجمل ما لديهم.. كل شعراء مصر إذا ما كتبوا لأنغام يبحثون عن جديد لم يسطروه من قبل، ويعرفون أن جمهورها سيقبل منها ما لا يقبله من الأخريات.. مَن يقرأ سيرة أنغام يدرك كيف تطورت الكتابة عن الأنثى، ولها، عبر ما يزيد على ربع قرن.. وكيف توقفت الأخريات عند معانٍ ومفردات كانت تغنيها منيرة المهدية.. سحر أنغام التى حيرت عازفيها فى حفلها الأخير وأجهدتهم، وكانوا بالفعل فى أفضل حالاتهم، لم تكن فى مباراة معهم ومع تفاصيل أناملهم.. ومَن يرد أن يتخيل ذلك فعليه أن يراجع أداء عازف القانون.. ومجموعة الآلات النحاسية.. آلات النفخ.. تلك المبارزات التى كانت تمرق بينها بمهارة تحسد عليها.. الفكرة ليست فى ذلك الدرس الذى يجب أن يحفظه كل مَن يريد الغناء لايف فى الهواء الطلق.. الفكرة أن هذه السيدة ذابت مع مفردات ما تغنيه وما تعزفه فرقتها حتى ارتوت واستكانت، فكان أن صفقنا لها ونحن نجلس على آرائك موسدة وقد تسلل ذلك السحر القادم من الأوركسترا، إلينا لنهتف نحن من بعيد جدًا مع جمهور حفلها بأن تُعيد ما غنت مرة أخرى.. ولو أعادت لمرة ثالثة ما مللنا. 

غنت أنغام لثلاث ساعات متواصلة فى الهواء الطلق.. لا لتنافس أحدهم أو إحداهن.. فقط هى تقول لمن يريد أن يعرف إن حفيدات إيزيس قادرات على لملمة ما تبعثر من الأبجدية.. قادرات على كتابة تاريخ جديد لأغنية مصرية جديدة غير مبتورة عن أصلها الممتد حتى خمسة آلاف سنة ويزيد.. مهما امتلك الآخرون فى أى بقعة فى العالم من أدوات الإبهار.. فحفيدات إيزيس وفى مقدمتهن أنغام يمتلكن الجيد الذى تزينه تلك التفاصيل.. أصواتنا وموسيقانا هى الجسد والروح.. تخفت أحيانًا.. تغيب بعض الوقت.. لكن وقت حضورها وتجليها لا أحد يجارى صوت مصر.. هذه بعض رسائل حفل أنغام الأخير لو كنتم تعلمون.. ومَن لا يعلم عليه أن يبحث عن الريموت ويتجه إلى قناة «الحياة» ربما تكون هناك إعادة.. ففى الإعادة إفادة لمن لا يفقهون.