رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأغنية تدخل إلى الشماتة والعبودية

ظلت الأغنية المصرية، منذ نشأتها، محكومة بالتيار العاطفى الذاتى والوطنى العام، لكن ذلك لم يمنع الظهور القوى لتيار آخر يغازل بكل الطرق غرائز المستمع الجنسية بحثًا عن الرواج السريع، وفى ذلك السياق لم تخل حتى أغنيات أم كلثوم فى بداية حياتها من طقطوقة عام ١٩٢٦ تقول فيها: «الخلاعة والدلاعة مذهبى.. من زمان أهوى صفاها والنبى»، وسبقت ذلك الست نعيمة المصرية فى أغنيتها: «هات القزازة واقعد لاعبنى.. دى المَزة طازة والحال عاجبنى»، وأغنيات نعيمة المصرية من نوع: «ما تخافش عليا أنا واحدة سيجوريا.. فى العشق واخدة البكالوريا»، كما غنت منيرة المهدية سلطانة الطرب: «بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة». 

ولم يخل تاريخ الأغنية قط من ذلك اللون الذى يغازل لدى المستمع الغريزة والمخدرات والخمور، إما صراحة أو تلميحًا، هذا كله مفهوم بحكم أن الأغنية أكثر الأشكال الموسيقية انتشارًا وربحية، فى الظروف التى لم تنتشر فيها الأشكال الموسيقية الأخرى، مثل الباليه والسيمفونية وقطع الموسيقى البحتة. 

مفهوم إذن اتساع نطاق ما يسمى «تيار الأغانى الهابطة» وركائزه، لكن ليس مفهومًا ولا بأى حال ما نسمعه الآن من التغنى بالكراهية والشماتة والمذلة، فلم يسبق قط أن تغنى أحد بكلمات مغناة تقول: «اللى يزعلنى حوت يبلعه داهية تولعه.. تتلم عليه الناس والدنيا وفين يوجعه.. وفى كل طريق تطلع له الحاجة اللى توقعه»! ويسبح حتى مطرب معروف مثل راغب علامة فى تيار الكراهية والشماتة حين يغنى: «اللى سابنا قفلنا بابنا.. واللى ما بيعرفش قيمتنا خد معاه الشر وراح»! فهل يمكن لمثل هذه المشاعر السوداء أن تغدو مادة للفن وللتغنى بها؟ ذلك يشبه الكتابة عن شخص بالغ البخل، ضن على ابنه بأموال العلاج، وعلى زوجته بنفقات الطعام، ثم فقد ذلك الشخص أمواله فجأة فى حريق، وأصبح مطلوبًا من الأديب أن يستدر العطف عليه، وهذا مستحيل، مهما بلغت عبقرية الأديب، لسبب بسيط أن الفن هنا يدافع عن قضية خاسرة، أى البخل، والدفاع عن الكراهية فى الفن قضية خاسرة تسقط كل إبداع. الوجه الآخر للشماتة هو أغنيات المذلة من نوع: «اتعودت إنك تهدمنى.. وبتدمرنى.. وتكسرنى»، وهما وجهان لعملة واحدة: الروح والعقل المشوه المريض. 

وما من حل إزاء تلك الأورام الغنائية إلا أن تبرز وتظهر وتعم النماذج التى تتغنى بالحب، وبالحياة، والأمل، وأن نعمل على نشر مراكز الموسيقى فى المناطق الشعبية، والرجوع إلى حصص الموسيقى فى المدارس، وأكشاك الموسيقى فى الحدائق التى تبث روائع الموسيقى العربية، وتوسيع نطاق حضور الفنون فى الجامعات، وفتح الأبواب أمام الشبان من الفنانين، وما من سبيل آخر لكسر شوكة ذلك التيار الذى يغترف ما يظنه تجديدًا من بئر سوداء.