رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السودان.. الوضع خارج السيطرة

أتابع بانزعاج شديد وألم فى الصدر والروح ما يجرى فى السودان.. شارعى الذى أسكن فيه منذ عشرين سنة تغيرت ملامحه بعشرات الأسر من الأشقاء فى السودان.. الأمان والهدوء فى ملامحهم وهم يتسوقون من محلاتنا تقابله حالات فزع تنط من بين سطور التقارير الصادرة من الأمم المتحدة خلال اليومين الأخيرين.. أمس الأول أفادت هذه التقارير الدولية بأن الوضع فى السودان الحبيب أصبح خارج السيطرة.. يا لها من سطور لعينة جافة.. حادة.. ميتة مثل قلوب الذين أشعلوا الحرب هناك منذ أربعة أشهر وما زالوا يزيدونها اشتعالًا. 

أربعة أشهر فقط خلّفت أربعة آلاف قتيل وعددًا لا يمكن حصره من الجرحى ودمرت ما كان موجودًا من بنية تحتية متعبة فى الأصل.. تلك التقارير تحذر من أمراض خريفية قادمة مثل الملاريا والكوليرا لن تستطيع المستشفيات هناك التعامل معها، ليس لعدم القدرة على جلب الأمصال فقط، ولكن لعدم جاهزية هذه المستشفيات للعمل من أصله.. التقارير ذاتها تشير إلى فرار مليون سودانى إلى دول الجوار ونزوح أربعة ملايين آخرين بالداخل.. أما الأمر الأصعب فهو خطر نقص الغذاء للعديد من الأسر.. وعدم قدرة الفلاحين فى أماكن متعددة على زراعة أراضيهم لارتفاع أسعار المواد البترولية من ناحية ولغرق آلاف الأفدنة بعد تهدم الجسور من ناحية أخرى.. السودان الحبيب الذى يملك ملايين الأفدنة من الأراضى الخصبة أهله تهددهم مجاعة قادمة.. بدلًا من أن يصبح سلة غذاء العرب والعالم أهله يتعرضون للمجاعة والألعن أن إمدادات الإغاثة تعانى من عدم قدرتها على الوصول إلى من تستهدفهم فى الأماكن المنكوبة وبخاصة فى جنوب وغرب كردفان. 

الوضع خارج السيطرة.. الجميع فى ذلك العالم البارد يعرف ذلك.. مثلما يعرف من أشعل الصراع، لكنهم لا يتحركون لوقف الأزمة.. الخروج من هذا النفق المظلم لن يحدث دون فعل سياسى جاد ولن تحسمه رصاصات البنادق.. لكن يبدو أن هناك من يريد أن يخرج الوضع عن السيطرة دون أى اعتبار لحياة هذه الملايين من الأرواح الجريحة. 

بعين الغضب أنظر إلى الجنوب.. بعين المودة أشاطر الأصدقاء هناك أحزانهم.. وأشد على يد كل مصرى طبطب على القادمين من هناك إلى أهلهم فى أزقة فيصل والهرم وأكتوبر وعابدين.. أتابع ضحكاتهم البسيطة على المقهى وقد حفظوا نكات وقفشات المصريين وصاروا يتبادلونها معنا.. نادل المقهى يتهمهم بأنهم غلوا علينا السكن والسجاير فيضحك الشاب السودانى الذى يسامره ثم يقول «بس إحنا ما بنشربش سجاير».. فيضحك الجالسون لذكاء الشاب السودانى ولطفه وهو يقول إنهم سيشتركون فى الدورى بفريق أسمر وسيحصلون على المركز الثالث وعلى الزمالك أن يبحث له عن موقع آخر.. صار أهل السودان جزءًا من حياة إخوتهم فى مصر، لكنهم ينظرون إلى هناك.. يسمعون ويفتشون عن الأخبار.. الجملة البائسة التى صدرها تقرير الأمم المتحدة الذى أذاعته إحدى القنوات العربية أدمعت عين الفتى الذى كان يمزح منذ قليل.. فحاول الهروب من ظلالها بأن قال الوضع خارج السيطرة.. ابعتوله بوليس الآداب.. ثم وقف ليحاسب على المشاريب ويمضى وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة.. نعم هو وضع غير مفهوم.. الأمم المتحدة تدرك مثلما يدرك الجميع أن السودان الطيب يقترب من بوابة الجحيم.. نزوح جماعى ونقص غذاء وأمراض قاتلة تهاجم العجزة والأطفال فماذا فعلوا؟.. أو بالأحرى ماذا سيفعلون؟.. لن يفعل أحدهم شيئًا.. فالعراق واليمن وغيرهما من بلدان العالم التى تعرضت لنكبات مماثلة تعانى منذ سنوات ولم تفعل تلك المؤسسات التى تدّعى الرحمة والحكمة شيئًا.. السودان لن ينجو إلا بعقل الذين يعيشونه ويعيشون فيه.. فهل يدركون؟.. أتمنى.