رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يتهمونها ويخافونها

كل الأشياء التى جعلتنى أحترم نفسى تنبع من "الحرية" التى تربيت عليها، وتشبثت بها رغم كل صعابها.. الحرية طريق مفروش بالأشواك، مشيت عليه طوال عمرى، حتى أجنى الورد والزهور. 
الحرية، أعترف بأنها أحيانًا تمرضنى بالاكتئاب طويل المدى، والقصير المدى، تُشعرنى أحيانًا بأننى أناطح الهواء، ولكنها تعود لتمنحنى السكينة والاطمئنان، تمسح دموعى بيديها الحانيتين، قائلة: "أبشرى.. الخير آت لا محالة.. لا تيأسى من رحمتى وحكمتى.. ابقى كما أنتِ رغم أرق الليالى الطويلة، ودأب الكوابيس، ورقصات الأشباح المخيفة.. والأصوات التى تحاول امتلاكك بالتخويف والتهديد.. أنتِ لستِ قطرة فى البحر.. أنتِ البحر". 
"لقمة هنية تكفى مِية"، هكذا نردد.. وهذا ربما يكون صحيحًا، إذا كنا نقصد "لقمة العيش". أما "لقمة الحرية"، فهذه قصة أخرى تمامًا. 
لقمة الحرية، كاملة، أو نصفها، أو ربعها، لا تكفى إنسانًا واحدًا، أو إنسانة واحدة، يومًا واحدًا أو نصفه أو ربعه. 
"لقمة العيش" مشبعة، تسد الجوع إلى الطعام.. "لقمة الحرية" غير مشبعة، لا تسد الجوع إلى الانطلاق.. "لقمة العيش" نتناولها فلا تطلب المعدة المزيد.. "لقمة الحرية" نتناولها، فتطلب المزيد، والمزيد.. "لقمة العيش" ترضى بالقليل، تؤمن بأن "القناعة كنز لا يفنى"، وبأن "منْ رضى بقليله عاش". 
"لقمة الحرية" نهمة، طماعة، لا تؤمن بشىء إلا نفسها.. "لقمة العيش " تكتب القصائد، إذا أبصرت فى السماء جزءًا بسيطًا من القمر.. "لقمة الحرية" لا تمسك بالقلم، إلا إذا اكتمل القمر. 
"لقمة العيش" يمكن أن تكون الفول النابت، والعدس، والجِبنة القريش، ويمكن أن تكون الكافيار، وجِبنة الروكفور، والديك الرومى المحشى فريك، لكن فى كلا الأمرين ، تم اختصار الوجود فى تلبية غريزة الأكل ، لاستمرار التنفس. 
"لقمة الحرية" لا يعنيها الأكل، لا يهمها استمرار التنفس، فهى الغاية من الوجود ، بل هى الوجود نفسه، فى أشهى وأنبل وأجمل الأثواب .
"لقمة العيش" للعيش.. "لقمة الحرية" للحياة.. وفرق كبير بين أن "نعيش"، وأن "نحيا".. هو الفرق بين منْ يتفرج على لوحة للبحر فوقه البطاطين تشعره بالدفء والأمان، ومنْ يلقى بنفسه عاريًا فى أمواج البحر فى عِز البرد، وقلب الخطر.
هناك الأفراد والمجتمعات المتفرجة على لوحة البحر، "لقمة العيش"، وهناك الأفراد والمجتمعات التى تنزل إلى البحر.. هناك الثورات التى انتفضت من أجل "لقمة العيش"، وهناك الثورات التى انتفضت من أجل "لقمة الحرية". 
إذا سُئلت ماذا أحب؟ ، أو ماذا أتمناه لمصر؟، وطنى ، سيكون الرد دون تردد، 
أن تكون من مجتمعات "لقمة الحرية"، أو النزول إلى البحر، وليس مجتمعات 
"لقمة العيش ، أو الفُرجة على البحر. 
أعرف جيدًا أنه أمر صعب للغاية، بل أسميه أكبر التحديات، ولهذا السبب هو "أمنية"، أو "فن المستحيل"، فى مقابل "الواقع" أو "فن الممكن". 
لكن هكذا هى مسيرة البشرية، أن نفكر، أن نتفلسف، أن نتمنى، أن نحلم، أن نتخيل، ومع العمل الدءوب والإخلاص والإصرار، والتعلم من الخبرات، والاستفادة من دروس التاريخ، تصبح الأفكار والتفلسف والأمنيات والأحلام والتخيلات "واقعًا" و"حقيقة". 
أعتقد أن العائق الرئيسى لنكون من مجتمعات "لقمة الحرية" هو أن كلمة "الحرية" أصلًا كلمة بكل أسف من الكلمات غير المفهومة، سيئة السُمعة.. كلمة "الحرية" هى نفسها "مقهورة"، تحتاج لمنْ يحررها وينصفها.
ما أن ننطق فى مجتمعاتنا بكلمة "الحرية" حتى تنتفض وتتحفز وتتشنج جميع أشكال ودرجات الإدانة الأخلاقية. 
"الحرية" فى مجتمعاتنا ترادف قلة الأدب والفسق والفجور وعدم المسئولية.. كلها متعلقة فقط بالانغماس فى غرائز النصف الأسفل من الجسد، باستهتار، دون أى ضوابط. 
إذا قالت امرأة، أو قال رجل فى مجتمعاتنا إنه يريد أن يكون "حرًا"، فورًا نتصور إنسانًا كافرًا بكل الأديان، خاصة الدين الذى ورثناه، وبالتالى لا يخاف ربنا، وبالتالى كل المبيقات مباحة فى نظره، شغله الشاغل السُكر، والعربدة، والجنس الفاسق المنحل المتعدد، وهدم كل القيم التى ترتقى بالبشر. 
بالطبع، ولأننا مجتمعات ذكورية، فإن الإدانات الأخلاقية للمرأة تكون أكثر قسوة.. وكم من الفضائح الجنسية المدانة اجتماعيًا، وثقافيًا، ودينيًا فى مجتمعاتنا خرج منها الرجل نظيفًا ليس عليه أى وصمة، بل نعتبره بطلًا ونجمًا. 
مثلًا حينما يتناول الإعلام خبرًا عن ضبط بيت دعارة يقول: "تم ضبط رجل مع عاهرتين". الرجل رجل، لا يوصف بالعهر، ومنْ معه من الفتيات أو النساء فى بيت الدعارة هن فقط العاهرات.. الإعلام لا يقول أبدًا: "تم ضبط عاهر مع عاهرات فى بيت دعارة"، لماذا؟. أليس الفعل مشتركًا، وبالتالى لا بد أن تكون الصفة مشتركة؟. لماذا لا يتم ذلك أبدًا؟. هل يجيبنى أحد؟.  
والقانون المصرى يميز فى العقوبة بين الرجل والمرأة لصالح الرجل فى قضية الزنا.. وفى قضية العُهر لا يناله أى عقاب، بل ويُتخذ شاهدًا على ارتكاب جريمة ممارسة الدعارة للمرأة، التى شاركته الفعل العاهر نفسه المعاقب عليه قانونًا، وعرفًا، وثقافة.. أليس هذا ضد العدالة والمنطق؟. أليس هذا كيلًا بمكيالين؟ وهذا التمييز ضد العدالة والمنطق وضد استقامة الأخلاق التى نتشنج للحفاظ عليها فى جريمة مثل الرشوة "لا تتعلق بالنصف الأسفل للجسد"، الراشى والمرتشى كلاهما يوصم بالفعل نفسه. 
وارد جدًا وطبيعى أن البعض يسيئون فهم الحرية عن جهل أو عن عمد. ولكن هذا ليس مبررًا لإدانة الحرية أو منعها.. نحن مثلًا لا ندين ولا نمنع الزواج، لأن هناك زيجات فاشلة، تعيسة.. ولسنا نمنع قيادة السيارات، لأن هناك حوادث طرق كل يوم، ولا ندين التعليم أو نمنعه لأن هناك منْ يرسب.
ومن تجارب الواقع، ومن تأمل صفحات التاريخ قديمًا، وحديثًا، يتضح أن أكثر الناس اتهامًا للحرية، وإدانة للأحرار، نساءً ورجالًا، هم أكثر الناس فسادًا أخلاقيًا. 
واختصارًا لتحقيق حلم مجتمع "لقمة الحرية"، أقترح مقررًا تعليميًا ثابتًا، ومستمرًا، يبدأ منذ الطفولة، ويمتد حتى آخر المراحل، اسمه "حب وإنصاف الحرية".. ويظل متجددًا مع تغير الزمن وتغير الناس.. بل يسهم فى إحداث هذا التغيير الذى يقدم نفعًا وسعادة للجنس البشرى. 
يشمل هذا المقرر مفهوم الحرية، طبيعة الحرية، علاقة الحرية بالمسئولية الفردية والمجتمعية، آراء ومؤلفات الكتّاب والأدباء والفلاسفة على مدى العصور فى الحرية، تجارب البشر نساء ورجالًا مع تجارب الحرية، وتجارب القهر، تجارب المجتمعات المختلفة مع الحرية، عوائق الحرية على مستوى الفرد والمجتمع، وعلاقة الحرية بما نسميه "الأخلاق"، ازدواجية المقاييس الأخلاقية، والكيل بمكيالين بين الناس، وبين الجنسين، وبين الدول، وفضح القوانين القائمة على التمييز الذكورى أو الدينى أو العرقى، تطهير الحرية من الشوائب التى تلحق بها عمدًا، إنصاف الحرية من التشوهات والإشاعات التى تُرتكب ضدها يوميًا منذ بدء الخليقة، الجرائم التى استنزفت البشرية، وقتلت ضحاياها بدم بارد نتيجة قلة الحرية أو غياب الحرية أصلًا وليس لأن الناس أحرارًا، مناقشة ما يسمونه "الثوابت" و"المقدسات".  
مثلًا، الفيلسوف الألمانى فريدريك نيتشه "15 أكتوبر 1844– 25 أغسطس 1900" قال: "إنه لا توجد أخلاق، ولكن توجد تفسيرات أخلاقية للظواهر"، وقال أيضًا: "إن الأخلاقيات هى الوسيلة الفعالة لقيادة البشرية من أنفها".        
إن كل فضيلة يمكن تصورها هى من نتاج "أخلاق الحرية".. فالحرية تصحح نفسها بالتجربة، والمعرفة، والشجاعة، والأمانة، والنزاهة، والاتساق مع الذات، والوضوح، والحساسية لحقوق الآخرين، وعدم الرغبة فى فرض الوصايا عليهم تحت أى مسمى.  
وكل رذيلة يمكن تصورها هى إرث مباشر من "أخلاق القهر".. فالقهر يعيد إنتاج آلياته وتقاليده وتبريراته وأكاذيبه، التى هى عكس أخلاق الحرية. 
الحرية فى منتهى الكرم، والتواضع، لا تطلب شيئًا إلا أن نحبها، حتى تمنحنا كل كنوزها، وأسرارها. 
أغلب الناس لا يحبون الحرية، إما أنه شىء فى الجينات الطبيعية، أو أنهم استدمجوا القهر وتأقلموا معه ووجدوا فيه الأمان والراحة إلى درجة أنهم أصبحوا يكرهون الأحرار من النساء والرجال، الذين حتمًا سينقلون "عدوى الحرية" إلى الآخرين.
الكاتب والفيلسوف وعالم النفس والاجتماع الألمانى إريك فروم "23 مارس 1900– 18 مارس 1980"، الذى التهمت مؤلفاته فى سن صغيرة، له كتاب شهير ممتع اسمه "الخوف من الحرية" يفضح تاريخ البشر فى مقاومة الحرية من الناحية الثقافية والاجتماعية والسياسية والنفسية والوجدانية.  
-------------------------------
من بستان قصائدى 
-----------------------
 مهما كانت الإغراءات
التى تحملها القطارات
فلم أركب أبدًا
إلا قطار حياتى