رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرئاسة تنزع السيادة

التنازع فى ذروته بين البيروقراطية والتكنولوجيا، والحسم قد اقترب. فيا ترى كيف سيكون نمط رئاسة العالم القادم بوجهه العابس؟ فى الأفق وعلى الأرض تتجسد تشكيلات هيكلية لكيانات المجتمعات البشرية وهندسة لعقول أفرادها بأساليب غير مألوفة عبر منظومة كونية بشرية ومادية تقودها شركات عملاقة عابرة للقارات ومتخطية للحدود بتقنيات وبرامج تكنولوجيا حديثة، ظاهرها فيها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب، فى مشهد عام على الساحة الدولية أشبه بصراع محموم مائج يكتسح الزمن ليرسم مسارات جديدة ومختلفة لتوجيه العالم والتحكم فى إدارته بسبل وأساليب وطرق ستحدث تحولات فكرية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية ومهنية لم يتهيأ لها العالم تمامًا.
وحتمًا ستختلف عما هى عليه اليوم ضمن ملامح توحى بأنه لن تكون للدول سلطة مطلقة على شعوبها من منظور أن أركان وعناصر الدولة ستتغير وليس بالضرورة أن تكون عناصر الدولة كما هى العناصر التقليدية المعروفة الإقليم والشعب والحكومة أو «السيادة»، وواقع الحال يحكى أن ما سيأتى سيغير حتمًا المفهوم المتعارف عليه حول شكل الدولة، خاصة المتعلق بالسيادة، إلى مفهوم جديد يراد له أن يكون هو مفهوم «السيادة العالمى» فى تصور وكأن هذه الشركات المكتسحة للحدود قد أطرت مفهوم السيادة لتنتقل به إلى قالب جديد يُذيب الحدود ويصهر الجنسية ويُحيل الخصوصية والنظم والقوانين والعملات النقدية والورقية الوطنية والمحلية إلى تقاعد نهائى وذكرى من الماضى فى إطار منظومة فكرية واجتماعية واقتصادية ومالية وتجارية وسياسية لها ظروف وشروط جديدة ومختلفة. 
استنطاق المشهد الدولى يعكس مسلمة مضمونها أن أدوات ووسائل وسبل ومعطيات جديدة قد تم الانتهاء من مسودة صياغتها وتشكيل بنيتها التحتية ووسائل ترابطها ونمط إدارتها وآليات نموها وتطورها. ويبدو أنه قد اقترب إعلانها فشركات «واتس آب وفيسبوك وتويتر وانستجرام وسناب شات والتوك توك والبودكاست» وعملات البيتكوين الرقمية وغيرها تتسابق فى صراع محموم لتقدم للناس شتى الخدمات معظمها مجانية. فهل يُعقل أن تُتيح هذه الشركات كل هذه الخدمات التى أضحت ضرورة قصوى للناس بالمجان؟ يبدو أن الثمن قادم لكنه باهظ. 
فالمتأمل  هناك خدمات ضخمة ومذهلة وتنتشر فى كل العالم ولكل الناس مجانًا بلا ثمن، فقد لا يتفق ذلك مع المنطق والمعقول لا سيما فى ظل التنافس على الموارد وطغيان المال واستحواذه على نظام حياة الناس مع هذا الزخم المتزايد من الأزمات المتمترسة فى أزمات اقتصادية حادة وصراعات سياسية مستفزة وحروب قهرية محرقة تتأهب كلها للمال ثم المال.
وليس ذلك فحسب بل أن التقنيات والتكنولوجيا التى قد لا تكون أُعلنت هى أشد وطأة مما قبلها وقد يكون إعلانها بمثابة الثورة العالمية الحقيقية ليس فى مجال الاتصالات وتقنية المعلومات فحسب ولكن فى سلطة رئاسة العالم وقيادته برمزية لها وجه عابس مكفهر ونمط قيادى وإدارى أقرب إلى التحكمية منه إلى المرونة بمركزية دولية شديدة تقودها رموز ميولها نحو الحقد على البشرية أقرب إليه من التسامح معها وبأهداف مادية وابتزازية تحكمية بحتة.
يلوح فى الأفق أن عناصر ووظائف الإدارة بما فيها مفهوم التخطيط والتنظيم والتنسيق والتوجيه والتوظيف وحتى المتابعة والرقابة ستتغير حتمًا تبعًا للمتغيرات الجديدة التى انتهت من مسودتها تلك الشركات الدولية المتنمرة العلنية والخفية منها التى سيساق بها العالم إلى أسلوب رئاسى جديد وممارسة إدارية تحكمها مصالح توسعية تلتهم ثروات الشعوب الكادحة بأسرع وقت وأبسط جهد وأقل تكلفة وتعيد صياغة نظام حياة الناس بطريقة جديدة شق لها الإعلام الجديد الطريق ومهد الأرض وأخوى العقول وأرخص الأجساد وبدل مفاهيم الأخلاق والقيم ومسخ الإنسانية السوية ليحيلها إلى إنسانية بهيمية حيوانية نتنة ضمن قطعان لا تعرف الرحم ولا تؤمن بالتراحم.
وإن كانت قوة التقنية قد مهدت لهذه الشركات وما خلفها خط رئاسة العالم الجديد ورسمت ملامح سلطته فسباق العلم والمعرفة لن يتوقف وستظل العجلة دائرة بين دلالات تحضر أمة وتخلف أخرى، فكم للعرب من منابر علم وإشراقة معرفة فحضارة بابل العراق ومصر الفرعونية وإشعاع أرض الحرمين فى جزيرة العرب وفى أرض الحبشة منارات وجسر المعرفة والثقافة ممتد من المغرب العربى إلى أوروبا. 
كل هذه تُشكل مرجعية لخوارزميات التقنية ومنهجية الإحصاء وأسس الطب والدواء كتب نظرياتها ونشر معارفها علماء عرب كبار. 
ومن خصائص الشخصية العربية حب الهجرة والانتقال والعيش على محاور التنافس العلمى والمعرفى فى شتى دول العالم لا سيما المتقدم منها، ولهم دور فاعل فى المنظومة التقنية العالمية وفى خوادم تلك الشركات، وهذه قيمة يمكن البناء عليها والانطلاق منها لتشكيل «رابطة التقنية والمعرفة العربية» كمنظومة مهنية معرفية للعرب المتخصصين فى العلوم التكنولوجية والمعارف ذات الصلة بها ومن خلالها تسنح الفرصة لتوحيد جهودهم تحت هذه المظلة لنرى على غرار واتس آب «عرب آب».