رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نيران سكوت

 

عندما يتعلق الأمر بمصر وقوتها الناعمة لا أؤمن بالصدف فكل شيء مخطط له. 
الصدف يؤمن بها فقط الأبرياء السذج.. لكن وفى حقيقة الأمر الأمور لا تسير كذلك والطريق إلى جهنم عادةً ما يكون مفروشًا بالوعود الكاذبة والتى قد تبدو صادقةً طيبة.. 
«ترافيس سكوت» مؤدى الراب الأمريكى من أصحاب البشرة السمراء عاشقًا للنيران التى أشعلها عمدًا فى حفله فهو من مشعلى الحرائق.. وظلت نيرانه المشتعلة تستعر لا تخمد ولا تنطفئ لمدة ١٢ ساعة فى أحد حفلاته فى عام ٢٠٢١!.. وكأن جائحة كورونا لم تكن كافية ليموت عدد لا بأس به من البشر هنا وهناك..
لتأتى نيران «سكوت» وتلتهم فى حفله ١٠ أشخاص ذهبوا للترفيه عن أنفسهم فى حفله بعد نجاتهم من الوباء ليحرقوا فى سعيره وكأنه قد أرسلهم لجهنم! وفشلت كل المساعى وفشل الجميع فى إخماد النيران كما سبق وأوضحت، وكان ذلك بشهادة شهود العيان والناجين الذين حضروا ذلك الحفل المأساوى وشاهدوا النيران التى أشعلها «سكوت» عمدًا واعترف بنفسه بالمأساة التى وقعت فى حفله وراح ضحيتها ١٠ من الشباب ماتوا حرقًا فى نيرانه التى ربما يراها تطهرًا أو تنقل الآخرين للجانب الآخر من تلك الحياة.. فانتقلوا للموت وللفناء! 
وهو الهدف الأسمى لسكوت على ما يبدو ومن وجهة نظره ورؤيته للموت ورؤيته أيضًا للحياة التى نعيشها ويريد هو إنهاءها فينقل جمهوره للجانب الآخر كما كان واضحًا من شعار حفلته التى روج لها..
ولم يكن يعرف الجمهور أن «سكوت» يعنى بالانتقال للجانب الآخر الرحيل التام عن هذا العالم ليبقى «سكوت» وأمثاله من مشعلى الحرائق من الناجين ويرحل الآخرون! 
ومن أشعل حريقا فى حفله مات على إثره ١٠ أنفس.. يعنى أننا فى حالة مجون وحرب مع الحياة وصراع ضد البقاء.. بقاء الجنس البشرى! وكأن مؤدى الراب يريد الموت لجمهوره الذى يدفع حياته ثمنًا رخيصًا ليحضر حفلًا لسكوت الذى يوصل محبيه لسعير النيران.. ويزج بهم لجهنم وهى مصير يريده سكوت لغيره ويستحيل أن يكون محبًا للجنس البشرى بل يريد له الموت وخراب الديار كما يقول المثل الشهير فى بلادنا.. 
فتخيل أنك تدفع أموالًا لتذهب لحفل لتبتهج وتحتفل فتموت محروقًا متفحمًا! 
هذا ما حدث حرفيًا فى حفل سكوت الذى حضر مؤخرًا لأرضنا مدعيًا الترويج السياحى لمصر وأهراماتها التى هى حجة على التاريخ وعلى الحياة ويروج بها للتاريخ وللزمان.. فهى رمز لأعاجيب جميع الأزمنة ومن عجائبه الراسخة الصامدة التى لا مثيل لها على كوكب الأرض ولا المجرات والكواكب المحيطة.. فيعرف بها دومًا ولا تُعرف.. وهى حتمًا من تضيف لغيرها مجدًا وليس العكس.. 
فأهرامات مصر فخر وشرف لأى إنسان على ظهر هذا الكوكب أن يرتادها ويراها ويزورها ويقف أمامها معجبًا منبهرًا وكأنه فى قدس الأقداس.. 
لذلك أراد «سكوت» أن يحيى حفلًا للموت على سفحها! ويشعل النيران أمام أهراماتنا لتصبح رمزًا للشر وللموت وللفناء لا للخلود وللبقاء حتى قيام الساعة.. 
أهراماتنا ليست قبورًا بالمفهوم العمودى أو السطحى للكلمة.. فأهراماتنا الثلاثة يشكل كل هرم فيها هَرمًا شامخًا ليس هَرِمًا ولا يشيخ ولا يندثر ويعطى بإعجازه وعبقريته طاقة إيجابية إن دلت على شىء فإنما تدل على الصمود والشموخ والإبداع والعبقرية والثبات المؤدى حتمًا للخلود والبعث بعد الموت.. 
فأجدادنا بناة الأهرامات علموا العالم معنى الشموخ والتحدى والإعجاز الذى يقف الجميع أمامه حائرًا مندهشًا متشبثًا بالحياة وأن المستحيل لم يستحل علينا ولم يكن محالًا بل كان ممكنًا وسهلًا وفعلناه.. وبه نال من صنعوه الخلود وآمنوا بالحياة والبعث بعد الموت وهى ثقافة راقية تحتفى بالحياة ولا تحتفى بالموت.. 
وبالتالى يكون وجود أو تواجد شخص مثل الأمريكى «ترافيس سكوت» أمام سفح أهراماتنا شيئا لا يتسق مع عراقة وثقافة المكان الذى يؤمن من بنوه بالحياة وقيمتها وبالبعث والخلود ولم يستطع أو يتمكن أحد غيرهم من بنائها.. 
فى حين يؤمن سكوت بالنيران والسعير ويقدس الموت.. ويوصل محبيه للجانب الآخر المظلم محروقين متفحمين! .. فهو يريد للأجساد أن تتفحم بفعل النيران لتتحول للون الأسود الذى يعشقه كعشقه للظلام..  فنور الشمس لا يستهويه. 
النيران فقط هى من تنير له الطريق ويرى ويجد النور فيها وتوصلنا حتمًا للموت فنرى الجثث المتفحمة السوداء ويتحول النور بفعل النيران لسواد فاحم! 
لم تجعل الموسيقى أبدًا للفناء وللموت وإن استعانت بها الجنائز لتخفف من وطأة الموت والفقد على محبى من رحلوا عنا.. 
لم تخلق الموسيقى للظلام والنيران والجثث المتفحمة.. الموسيقى غذاء للروح كى تعلو وتسمو 
الموسيقى تغذى الروح لتبقى لا لتزهق.. وفى حفل لسكوت زهقت الأرواح الطاهرة غير الشريرة قربانًا له ولمجونه وعشقه للنيران والظلمات واللون الأسود والجسد المتفحم الذى ينتقل من الحياة للموت.. 
ولكل ما سبق أثير الجدل حول حفل «ترانس سكوت» الذى كان مرتبًا له.. وكان من الكياسة وحسن الفطن أن يلغى ذلك الحفل وأن تغادر عارضة الأزياء الإسرائيلية «شاى زانكو» التى دعاها سكوت لحفلته.. وربما كان يعد لنا مفاجأة تظهر فيها «زانكو» معه فى حفله على سفح الأهرامات التى يدعى شعبها أنهم بُناتها! 
فالتيه والصحراء وأهراماتنا تمثل بالنسبة للصهاينة وشعب بابل عقدة ووجعا قديما وجرحا غائرا وكأنه ثأر مبيت له منذ عقود ويتحينون الفرص للأخذ به.. فصعود ابنتهم مع سكوت على سفح الهرم سيشكل بالنسبة لهم انتصارا كبيرا ورمزا يريدون فرضه على ذلك المكان المقدس الذى يتمنون السطو عليه ونسبه لأنفسهم كما سطو على أراضٍ لم تكن لهم وتراث لم يكن لهم.. وطعام لم يكن لهم ومقدسات لم تكن لهم وتاريخ لم يكن لهم وفن لم يبدعوه وإبداع لم يصنعوه. 
هم مهرة فى الكذب والتدليس والتضليل والتزوير والادعاء والترويج للمظلوميات والبكائيات وابتزاز الغير عاطفيًا بحجة وذريعة ما حدث لهم.. وهم يقترفون اليوم ويفعلون بغيرهم مثل ما فُعل بهم ويرتكبون من الجرائم ما ارتكب فى حقهم فكما ظُلموا.. ها هم يظلمون من لم يظلمهم ويأخذون بثأرهم من أبرياء لم يقترفوا شيئًا بحقهم.. ويسطون سطوًا مسلحًا على هؤلاء الأبرياء ولديهم فى السطو إبداعات وابتكارات مدهشة! فكل أنواع السطو جاهزة وحاضرة دومًا.. السطو المستتر الناعم المخملى الذى يرتدى زى الحق وهو عين الباطل فيسرق مقدرات ومكتسبات غيرهم من ثقافة وإبداع وتراث وفنون.. 
وبالتالى كان من الحتمى أن تغادر «زانكو» أراضينا وتبتعد تماما عن سفح أهراماتنا الشامخة التى بنيت بدماء أجدادنا ومعجزاتهم وعلمهم الذى يحتار أمامه العالم بأسره حتى تلك اللحظة.. ورغم التطور الذى طرأ على حيواتنا حتى وصلنا للقمر والمجرات المحيطة بكوكبنا المترامى فى حين يعجز الجميع عن معرفة سر أهراماتنا ومومياواتنا وتحنيطنا والكثير من علومنا رغم كل ما حققه البحث العلمى الذى عجز عن حل لغز تفوق المصريين القدماء على العالمين فى الماضى والحاضر بل والمستقبل.. وهكذا لحقت «زانكو» بـ«سكوت» ولم تدنس أهراماتنا بأقدامهم.. فأهراماتنا لا تليق بهم ونربأ بها عن تواجدهم بجانبها.. 
وكلاهما يستحق الآخر ويشبهه ويليق به.. فهما خليلان والمرء على دين خليله ودين هؤلاء هو دين القتل والحرق والثأر وكراهية الحياة والآخر حبًا فى موته أو حرقه أو فنائه وكل واحد لديه ثقافته العدمية وإن اختلفت طرق الممارسة.. 
فالصهاينة ينقلون الآخرين للجانب الآخر بالذبح والمجازر وهدم البيوت والتهجير القسرى فى حين يحرقهم سكوت إن حضروا حفله! فكلاهما دعاة موت وخراب وكراهية للحياة .. ويبقى لنا تاريخنا ويبقى لنا إنسانيتنا وتبقى لنا أهراماتنا شامخة عصية محيرة لمن لا يستطيع صنع مثيلها ويريد السطو عليها بالتفافات ماكرة لم ولن تنطلى ولن يسلبنا أو يسرقنا أو يقتلنا أحدهم باستدارة ماكرة ولن يفلحوا فى وضع السم داخل العسل.. فالنور ساطع ينير لنا الطريق.. أما نيران السعير والظلمة الحارقة فتليق بمشعليها ومحبيها ومن يولون وجوههم شطرها ويقدسونها كما يحتفون ويفرحون بالموت والقتل والإبادة.. 
حفظ الله مصرنا وأهراماتنا من شرور كل متربص يقدس الموت ويكره الحياة.. ويكره الأبرياء ويكره البشر.. وستظل أهراماتنا حجة على هذا الزمان بما فيه وبكل من فيه..