رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"سلامٌ على إبراهيم".. بين التاريخ والأدب

تعتبر الرواية التاريخية لونًا من ألوان فن الرواية، يأخذ القارئ في رحلة عبر الزمن البعيد، حيث تجتمع الحقائق التاريخية مع الخيال الأدبي لتقديم قصة تأسر العقول والقلوب، تشكل جسرًا يربط بين الماضي والحاضر؛ تعين القارئ على فهم التحولات والتغيرات – التاريخية والاجتماعية-التي أثرت في تشكيل عالمه المعاصر.
ومن الروايات التاريخية التي صدرت مؤخرًا، وأثارت الكثير من الجدل، رواية "سلامٌ على إبراهيم" للمؤرخ والكاتب المصري الدكتور محمد عفيفي، ويرجع السبب في ذلك كونها تتناول شخصية القائد العسكري إبراهيم باشا– ابن محمد علي الكبير- والتي تعد واحدة من الشخصيات المؤثرة والمثيرة للجدل في تاريخ مصر، من المهم فهم دوره وتأثيره على الأحداث التاريخية التي شهدتها المنطقة العربية.
تمتاز هذه الرواية بقدرتها على تجسيد لحظات تاريخية هامة، وإلقاء الضوء على جوانب مختلفة من الماضي، مع ترك مساحات وفضاءات للخيال الأدبي تسمح للقارئ بأن يكون شريكًا في النص (من خلال تعدد القراءات والتأويلات) وهو نجاح كبير يحسب للكاتب.
تدور أحداث الرواية في الفترة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، القصر الملكي في مصر يعاني من انخفاض حاد في شعبيته.صراع كبير يدور بين الملك فاروق ورجال قصره من جهة، النحاس باشا وحزب الوفد من جهة أخرى. رئيس الديوان الملكي في هذه الفترة (أحمد حسنين باشا) – المهيمن على مقدرات السياسة وبوصلة الحكم في مصر- يرغب في استغلال ذكرى مئوية ميلاد إبراهيم باشا كفرصة لتدشين حملة علاقات عامة؛ تعيد شعبية الملك وتحسن صورته المهتزة لدى الشعب، من خلال عمل فيلم سينمائي يحكي سيرة الجد إبراهيم باشا كقائد وفاتح عظيم. لكن حادث سير مفاجئ يودي بحياة حسنين باشا؛ يتولى كريم ثابت (المستشار الصحفي للملك) مسئولية استكمال هذا العمل السينمائي، يشكل لجنة رباعية لإنجاز العمل وخروجه إلى النور: حسني نجيب بك، يوسف بك وهبي، المؤرخ شفيق غربال والشاعر أحمد رامي.

من الملخص السابق يمكننا التوقف عند السياق التاريخي الذي أخذتنا إليه الرواية؛ فترة ما قبل نهاية حكم أسرة محمد علي، ويمكن لنا ببساطة أن نلاحظ التقابل الظاهر بين اللحظة التي بدأت وانطلقت منها الأحداث من مكتب الملك فاروق (فترة الضعف واهتزاز العرش)، ثم العودة لفترة زمنية سابقة تخص المؤسس محمد علي وولده الأقوى إبراهيم باشا (فترة التوسع والحلم بتأسيس إمبراطورية مصرية)، وكيف كانت ردود أفعال حاشية القصر تجاه سيناريو الفيلم المزمع إنتاجه والخوف من غضب بعض الدول الصديقة؛ ظهر ذلك جليًا في موقف اختيار اسم الفيلم وأيضًا في مشهد تصوير فتوحات إبراهيم باشا!
الشخصيات في الرواية كانت قليلة ومع ذلك جاءت حية ومكتملة؛ ففي ثلاث صفحات فقط نجح الكاتب في نقل صورة نابضة عن حسنين باشا وظهر منها بجلاء أهمية دوره في صنع القرار في تلك الفترة، وأيضًا الشخصيات الأخرى ككريم ثابت ويوسف وهبي وأحمد رامي وحسني نجيب وشفيق غربال جاءت متماشية مع الأحداث ومتوافقة مع خلفياتها الإجتماعية ودوافعها الذاتية. أما الشخصية الرئيسية (إبراهيم باشا) فقد اهتم الكاتب بإبراز جانبه الإنساني بخلاف دوره كقائد عسكري بارز، كما أشار إلى العلاقة المعقدة بينه وبين أبيه محمد علي، والتي شهدت فترات من الاتفاق والتفاهم وأخرى من الصراع والتضارب، تركت أثرًا هائلًا في تاريخ مصر والمنطقة العربية، وبناءً على إرثهما معًا، تشكلت العديد من الأحداث والتحولات التاريخية في المنطقة.
يُعتبر الأسلوب من أهم العناصر التي تجعل النص ممتعًا للقاريء، وتحفز الإحساس بالتأثر والتأمل. وفي رواية (سلامٌ على إبراهيم) جاء الأسلوب متميزًا؛ حيث استخدم الكاتب الكلمات والتعبيرات المناسبة التي أثرت المعنى وجذبتالانتباه، جاءت اللغة بسيطة دون تكلف أو تقعر مما ساعد على تدفق السرد وساهم على يسر التنقل فيما بين فقرات النص. اعتمد الكاتب على الجمل القصيرة المكثفة التي تحمل دلالات؛ ففي بعض الأحيان اكتفى بكلمة واحدة لوصف شعور أو حدث لكنها كانت كافية للتعبير الفني المطلوب لحالة النص. لم يفرط الكاتب في استخدام التشبيهات والاستعارات لتوضيح الأفكار وتجسيد الصور، يُعتبر هذا الأسلوب وسيلة فنية جيدة ومناسبة ساهمت في تحسين جاذبية النص وتدفق السرد، كما نجح في تقديم الشخصيات بطريقة جعلتها حقيقية وملهمة. جاء الحوار متقنًا ومكثفًا، يعكس طبيعة كل شخصية ومناسبًا لبيئتها كما ساهم في دفع الحدث للأمام. 
ولعل أكثر ما أعجبني في هذه الرواية هي الحيلة الفنية التي استخدمها الكاتب ببراعة: الماتريوشكا/الدمى الروسية؛ فالرواية تدور أحداثها من خلال سيناريو يعده يوسف وهبي عن حياة إبراهيم باشا ولكن من منظور السينما (الإبهار والخدع والدراما)، وسيناريو آخر يكتبه أحمد رامي من منظور المؤرخ (المهتم بتوثيق الحكاية الحقيقية)، وعند قراءة الفصول الأخرى للنص نجد أن الكاتب استخدم الفعل المضارع في بداية كل فقراتها! وكأنه أراد أن يقدم لنا سيناريو ثالثا يشرح من خلاله أن الحقيقة التاريخية نسبية، بمعنى أدق أن التاريخ حمال أوجه، وأظن أن هذه هي الرسالة التي كان الكاتب مهمومًا بتوصيلها إلى القارئ.
في نهاية المطاف، تظل الرواية التاريخية عنصرًا أساسيًا في الأدب والثقافة، حيث تعكس جمالية التاريخ وتروي قصصًا تتحدث عن الإنسانية وترسم لنا صورًا لعالمنا الحاضر ومستقبلنا المحتمل. عندما يجمع الكاتب بين دقة البحث التاريخي وبراعة السرد الأدبي، تصبح الرواية التاريخية قوة تُحدث تأثيرًا حقيقيًا على الثقافة والفهم الإنساني.

 "سلامٌ على إبراهيم" رواية نقدية وفنية في آنٍ واحد، تنظر للماضي بعين الفهم والاحترام، تترك بصمة مميزة في ذاكرة القارئ.