رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيض الفن فى قناة السويس

عندما احتفلت مصر فى ٢٦ يوليو الحالى بالذكرى ٦٧ لتأميم القناة، كانت تحتفل ضمنًا بباقة ضخمة من ألوان الإبداع الفنى، لأن الفن المصرى لم ينشغل بحدث تاريخى مثلما انشغل بقناة السويس، ومثلما دفق فيها المبدعون أجمل ما لديهم، فقد كانت القناة وما زالت علامة كبرى فى تاريخ النضال الوطنى ومقدمة أفضت لبناء صرح آخر جبار هو السد العالى، وارتبطت بكفاح الشعب المصرى البطولى لصد العدوان الثلاثى الذى أعقب تأميمها. 

وفى القصة القصيرة سنرى القناة حاضرة عند العبقرى يوسف إدريس فى قصته «هـ.. هى لعبة؟» من مجموعته «البطل» عام ١٩٥٧. فى الشعر دفق الأدب موجه بقوة بقصائد فؤاد حداد البديعة خاصة «قال لك ح نبنى السد»، وقصائد صلاح جاهين «ياحمام البر سقف.. طير وهفهف»، وكتب أمل دنقل عن تاريخ حفر القناة المؤلم فى قصيدته «أوجينى»، ولم يترك شاعر تقريبًا ذلك الحدث دون إشارة. فى مجال الأغنية ظهرت القناة بأصوات كبار المطربين، غنت فايدة كامل: «دع سمائى فسمائى محرقة.. دع قنالى فمياهى مغرقة» للشاعر كمال عبدالحليم، وشَدَت أم كلثوم بكلمات صلاح جاهين: «ما أحلاك يا مصرى وانت على الدفة.. والنصرة عاملة للقناة زفة»، وأبدع محمد عبدالمطلب فى غنوته: «يا سايق الغليون عدى القنال عدى.. ده اللى فحت بحر القنال جدى»، وقدم عبدالحليم حافظ عام ١٩٦٠ غنوة حكاية شعب التى يقول فيها: «وكانت الصرخة القوية من الميدان فى اسكندرية.. صرخة أطلقها جمال.. إحنا أممنا القنال»، وغنى محمد قنديل «يا ريس البحرية يا مصرى.. على القنال سهران». 

فى المسرح الغنائى برزت القناة موضوعًا لأوبريت «مهر العروسة» تأليف وأشعار عبدالرحمن الخميسى، وتلحين بليغ حمدى، غناء شريفة فاضل وكنعان وصفى، وإخراج سعد أردش، وقد عرضت أوائل ١٩٦٤ فى دار الأوبرا. ولم يتخلف الفن السينمائى عن المعركة، فقدم فيلم «بورسعيد» عام ١٩٥٧ إنتاج فريد شوقى، بمشاركة هدى سلطان وليلى فوزى. الأكثر من ذلك أن حفر القناة ألهم فى حينه حتى شعراء عالميين أمثال الشاعر الأمريكى «والت وايتمان» وغيره. 

أخيرًا، أشير هنا إلى حقيقة ربما لا يعرفها البعض، وهى أن تمثال الحرية الشهير الذى يزين مدخل نيويورك كان معدًا فى الأساس ليوضع فى مدخل قناة السويس! ذلك أن الإمبراطورة «أوجينى» التى حضرت الاحتفال بافتتاح القناة فى نوفمبر ١٨٦٩ عادت إلى فرنسا مبهورة بكرم الخديو إسماعيل، وأرادت، وقد غمرها الامتنان، أن ترد للخديو بعضًا من حفاوته، فكلفت النحات الفرنسى فريدريك بارتولدى بأن يصنع تمثالًا لوضعه فى مدخل قناة السويس يمثل فلاحة مصرية بغطاء رأس فرعونى وذراعها مرفوعة تحمل شعلة الحرية، وبالفعل انتهى النحات من عمل التمثال وسمى «مصر تنير آسيا»، لكن حربًا نشبت بين فرنسا وبروسيا فعطلت وصول التمثال إلى مصر! وانتهزت «رابطة الصداقة الفرنسية الأمريكية» الفرصة وطلبت من النحات أن يُدخل بعض التعديلات على التمثال لإرساله إلى أمريكا ما دام أنه لن يصل إلى مصر فى كل الأحوال! وبالفعل أدخل فريدريك بارتولدى تعديلات على التمثال وأضاف زيادة إلى طوله ونقل الشعلة من يد إلى أخرى وغيّر الرداء بحيث لا يشبه أردية المصريات، وتم إرسال التمثال إلى أمريكا ليستقر فى مدخل نيويورك مطلًا على المحيط الأطلنطى، مشتهرًا فى العالم باسم «تمثال الحرية». 

فى الذكرى السابعة والستين لتأميم القناة نحتفل بأنفسنا، وبالفن، وبكفاح الشعب المصرى، الذى طالما أثبت للعالم أنه قادر على استرداد حقوقه.