رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لم نشبع منه بعد

فى ٢٧ يوليو ١٩٨٠ توقف قلبه عن الخفقان، بعد ١٥٠ فيلمًا مبهرًا، أغلقت الاستديوهات أبوابها، وأعلنت كاميرات السينما الحداد، واعتذرت عن عدم إكمال المشاهد، حتى تجف حسرتها النازفة. 

مر ثلاث وأربعون سنة على رحيل «رشدى أباظة».. الفنان ذو الموهبة الغريبة النادرة، لكن وسامته، وجيناته، والنار فى داخله، أكثر غرابة. 

«ورم سرطانى» فى الدماغ حرمنا منه فى عنفوان شبابه، قبل أن يكمل عامه الرابع والخمسين بأسبوع واحد، فهو من مواليد ٣ أغسطس ١٩٢٦، وكأن الحياة قد غارت من نجوميته، وقررت الاكتفاء بهذا القدر، ونحن لم نشبع منه بعد.

كيف من خلال «كذبة الفن»، يجد «رشدى أباظة» الحقيقى؟، هذه كانت سر مأساته النبيلة. 

نجم استثنائى، مرّ كالكرام عابرًا، مدهشًا. أوصى بأن نضع فى قبره الريحان، بعد أن ملأ حياتنا بإطلالة الياسمين، ورقّة الفل، وشجن البنفسج.

أدواره الثانوية بالقدر نفسه من التألق والأستاذية، نذكر منها: «فى بيتنا رجل»، «طريق الأمل»، «موعد غرام»، «رد قلبى»، «جميلة بوحيرد»، ولا يمكن استبداله بفنان آخر، وإلا فقد العمل مذاقه وجاذبيته، وهذا معيار أساسى للموهبة والنجومية.

نذكر بطولاته فى «الرجل الثانى، الطريق، غروب وشروق، امرأة فى الطريق، الحب الضائع، تمر حنة، عدو المرأة، شىء فى صدرى، القبلة الأخيرة، المراهقات، صراع فى النيل، صراع فى الجبل، عندما نحب، الشيطان والخريف». 

له خفة ظل، وحس كوميدى بارع، كما فى «الزوجة ١٣»، «آه من حواء»، «نصف ساعة جواز»، «عروس النيل». 

بارع فى كل الأدوار، الخيّرة والشريرة، الحركة والأكشن، مأساة أو ملهاة، هو الصعيدى المتزمت، والباشا المرموق، والمحب الرومانسى، والعاشق الهمجى، النبيل والبرىء، والمجرم والخسيس، ذو المبادئ والمستهتر، وضابط البوليس.. يتحزم ويرقص بلدى بالعصاية، يرقص إفرنجى، تانجو، وتويست، وفالس، رئيس عصابة أو رئيس نيابة، وطنى مخلص أو جاسوس خائن، مثقف أو جاهل، معقد أو سوى، يحب المرأة أو يكرهها، يحترمها أو يبهدلها. فى كل حاجة، متألق، ومقنع، وجميل، ومحبوب.

يدهشنا، كيف لو كانت عناصر الفيلم هزيلة أو متوسطة، فإن لديه القدرة على رفع مستوى العمل، بأدائه، وحضوره، وإلهامه. 

رشدى أباظة، أشكرك، لأنك لم تأبه بنظرة مجتمعاتنا إلى «الراقصة»، فتزوجت من ألمع، وأجمل، اثنتين من راقصات كل الأزمنة، «تحية كاريوكا»، و«سامية جمال».

عاش «رشدى» الحياة، والفن، فى تناغم، دون تناقض. كلاهما نسيج واحد، يتميز بالجموح، والمغامرة، والتلقائية، والتركيز، والكثافة، والغرابة المدهشة المتفردة، والجسارة المتحدية المتمردة، وبعيدة غالبًا عن «الرشد» المشتق منه اسمه.

لم تشغله العالمية، فهى مجرد فلوس، أرقام، ونسب توزيع مرتبطة بدور عرض عابرة للحدود، ومنظومة تسويق دولية، وإمكانيات إبهار.

الفيلم ولو فى قرية صغيرة، هو عالمى، لو توافرت المواهب، والحضور الجذاب، والموضوع العميق المكتوب بصدق دون افتعال، بإبداع مبتكر راقٍ، وخيال رفيع، من أجل الفن، ومتعته، ورسالته، وليس من أجل الفلوس.

يستحيل إذن أن نعتبر فيلمًا لرشدى أباظة، مثل «امرأة فى الطريق»، أو «غروب وشروق»، أو «الحب الضائع»، غير عالمى، أو أنه أقل عالمية من لورانس أوليفييه، جيمس ماسون، جيرارد ديبارديو، ستيف ماكوين، جريجورى بك، آلان ديلون، جان لوى ترينتينيان، أنتونى هوبكنز، مارسيلو ماستوريانى، مونتجمرى كليفت، مارلون براندو، عمر الشريف. 

مات «رشدى» قبل أن ترحل أمه، وهذا من أسرار احتفاظه بالفرح، والإقبال الطفولى على الحياة، حتى النهاية. 

شئنا، أم أبينا، ومهما كان الإنسان أعظم الفلاسفة، وأعلم الحكماء بضرورة وطبيعة وحقيقة الموت، إلا أنه بفقدان أمه «تشيخ» قدرته على الفرح، وتتقطع بداخله أجمل الخيوط التى تربطه بالأشياء، ويظل يشعر بمرارة تسمم دمه، حتى لو شرب أحلى مذاقات الحياة. 

له حوار فى الإذاعة قال فيه: «أكبر غلطة ارتكبتها فى حياتى أننى وُلدت فى هذه الحياة». 

يقولون عنه إنه «زير نساء»، وحتى ابنته الوحيدة «قسمت»، التى رحلت فى ٨ يونيو ٢٠١٩، كانت دائمًا فى حواراتها تؤكد هذا الوصف. ولكننى لا أوافق على أن «رشدى أباظة» ينطبق عليه هذا الوصف أبدًا. إن «زير النساء»، يطارد، ويتحرش، وينتهك خصوصية النساء، عنوة، وهو يعتبر النساء هن محور وجوده، والهدف الأكبر لحياته، ولا يجد غضاضة فى فرض نفسه على النساء اللائى يرفضن الاقتراب منه.

أما «رشدى» فكيف يُعقل أن رجلًا فى وسامته وموهبته ونجوميته يرضى لنفسه مثل هذه السلوكيات. كل النساء فى حياته كن راضيات بالعلاقة معه. وإذا كان «زير نساء» لم يكن ليجد الوقت والجهد والطاقة والتركيز ليقدم لنا كنوزه السينمائية. 

صرّح «رشدى» بأنه يشعر بالجاذبية للنساء الأكبر منه فى العمر. مثلًا «كاميليا» كانت أكبر منه بسبع سنوات، و«تحية كاريوكا» أكبر منه أيضًا بسبع سنوات، ويفسر هذا الانجذاب بأن داخله طفلًا صغيرًا، لا يكبر، ويحتاج دائمًا لحب الأم قبل حب المرأة. 

سأشاهد الليلة رائعته «لا وقت للحب» مع فاتن حمامة، صلاح جاهين، وإخراج صلاح أبوسيف، ١٩٦٣، قصة وحوار يوسف إدريس، سيناريو لوسيان لامبير. فى هذا الفيلم يصل «رشدى» إلى قمة الأداء، وذروة استمتاعه بالتمثيل، وتسطع الكاريزما المبدعة أكثر، وتغطى على فاتنة الشاشة.

شاهدت «لا وقت للحب» مرات كثيرة، كل مرة أبقى مستغرقة، متحيرة، فى أدائه. وأفكر أن أغير اسم الفيلم من «لا وقت للحب»، إلى «لا وقت لنجم آخر غير رشدى». 

أرسل له فى ذكرى الرحيل، الثالث والأربعين، ألف وردة، تحمل مع عبيرها كل الامتنان، لوجوده معنا فى هذا الزمن.

من بستان قصائدى 

قال لى: أحبك.. لماذا عنى تبتعدين؟ 

قلت له: كم تأخرت.. أين كنت طوال هذه السنين؟

نفضت غبار الحب عن روحى وجسدى 

منذ زمن طويل 

قال: أعدك بأن يكون حبى ليل نهار 

بدون شوائب.. بلا غبار

قلت: جئت فى الوقت الخطأ.. للمرأة الخطأ

قال: كل خطأ أستطيع إصلاحه 

فقط لا تغلقى النوافذ والأبواب 

قلت: كيف تصحح أزمة منتصف العمر؟ 

وإدمان الوحدة؟ والزهد فى المتع؟

كيف تصلح سنوات من الغثيان 

المقيم فى أنسجة قلبى؟ 

كيف تبعث الحياة فى جثة هامدة

بقاربك الصغير وسط الإعصار؟ 

كيف تنجو من جبال الجليد؟ 

كيف بقدمين حافيتين 

تمشى على الأشواك؟ 

تريد أن تصلح الأخطاء.. أنت متفائل 

هل سمعت عن رجل أعزل 

ينتصر على الجيوش المسلحة؟

هل لقطرة من الماء 

أن تزيل جفاف الأشياء؟

قال: امنحينى فقط قليلًا من الوقت 

لأثبت لكِ أنك امرأة تستحقين الحب 

قلت: أستحق الحب؟! ربما 

لكن بماذا تفيد العواطف 

امرأة تريد النوم على الطريق 

تشتهى التسكع على أطراف القبر 

ولا غطاء يحميها من العواصف.