رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قيادة التهويل وإدارة التهوين

تتباين العصور والأزمنة فى معطيات أدوات التأثير فيها ووسائل القيادة وسبل الإدارة لشئونها المختلفة، إلا أن عالم اليوم يعيش مرحلة مختلفة لها قوة هائلة ومعطى مختلف له سمات وخصائص فريدة تأثيرها تخطى محددى الزمان والمكان من خلال الكلمة النافذة العابرة للحدود والسلوك المؤدلج والمجسد بمشاهد يُزيفها ويُزينها الإعلام والإعلام الجديد بكل فنونه وعبر تقنياته بوسائل فنية وأدوات تقنية وكأنها فى أعين الناس الحقائق، ليقرب للأذهان مشهد قصة موسى، عليه السلام، مع سحرة فرعون فى الآية من القرآن الكريم "قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى".

ويبدو أن مثل هذا المشهد يعد محور جذب الأجيال فتيان وفتيات نحو فنون الإعلام بعروضه الساحرة وبرامجه المبهرة. إن توجيه فكر المجتمعات البشرية وسلوكها تطغى عليه صنيعة الدعاية وخدعة الإعلان، فيعيش فى رحى فراغ لا نهاية له بين زيف الحقائق وتجسيد الأوهام، لتتسع دائرة خيال الوهم ويضيق محيط الحقيقة ضمن صور تراجيدية تراجع فيها نصيب قادة الثقافة والفكر والأدب وتعاظم زيف مشاهير السناب والبودكاست والفيسبوك، ليعيش الناس فى حلقة مفرغة قسط اليأس فيها تجاوز حظ الرجاء، لتظل فئة الشباب أكثر الفئات المجتمعية تأثرًا بالتوجه الثقافى والتوجيه السلوكى. يبدو أن الوطن العربي والإسلامي هو المعني بمسخ الهوية وهندسة الوعى لجاهزيته لتتلاعب بالمشاعر وبرمجة السلوك بصور متعددة ولغات شتى ووسائل مختلفة ورسائل تراتبية يسهل الوصول إليها بوسائل متباينة الصيغ تراكمية الأهداف، ليتم بصورة مباشرة أو غير مباشرة تشكيل الوعى الاجتماعى وفرض أنماط ثقافية وسلوكية بوتيرة سريعة وبطريقة ممنهجة.

السيادة والريادة ضمن مفهوم القيادة والإدارة أضحت رهينة سلطة إعلام وتقنية اتصال تُضخم الأحداث وتهول الحوادث وتصنع الصورة المادية والذهنية من منظور ثقافة تهيمن على تلك الوسائل عبر شركات دولية لها سياسات وبرامج خفية معدة بعناية لها أهداف ثقافية وفكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية مبرمجة وموجهة تُضخم وتهول الأحداث، خاصة المتعلق منها بالوطن العربى فى صيغ تستغل حوادثه وتصيغها بطريقة توحى بكارثية حادث عرضى تعرض له قطار أو اصطدام سيارة بأخرى أو حكم قضائى بات ضد فاسد اختلس من المال العام أو مذنب أخل بالنظام العام، لتسعى من خلالها إلى تشويه قيادة وإدارة كل ما هو عربى لتنميط صورة ذهنية تحمل ملامح فشل القيادة وتردى الإدارة فى دول الوطن العربى خاصة المحورية منها والمؤثرة فيها، لتؤلب شعوب تلك الدول وتزيد من نقمتها وعدائيتها لمنهج القيادة وأسلوب الإدارة، من أجل أن تُسخطها على نظامها المستقر لخلق نوع من عدم الرضا فى أوساط الرأى العام العربى لاسيما دوله الفاعلة.

وعلى هذا الوتر تلعب دول العالم الخارجي المؤثر بتمرير سياساتها الخارجية بالتعامل مع شعوب الدول الأخرى مباشرة بدلًا من التعامل مع الحكومات من خلال أدوات التقنية والاتصال الجماهيرى والإعلام الرقمى الذى أصبح يُؤثر فى الاتجاهات ويُغير فى أنماط السلوك بطرق مختلفة وبوسائل ابتكارية تتجدد باستمرار وحتى تعدى الحد في ممارساتها الانتهازية عن السيطرة على العين إلى التحكم فى سائر الحواس الأخرى، ليعيش الإنسان بكل حواسه مع متغيرات حوله وفى محيطه ولكن بتوجهات من خارج محيطه لها أجندتها، وبموجهات عابرة للقارات متخطية للحدود تُكرس صورة ذهنية تنافي الواقع وترسم مشاهد بديلة لها أبعادها الاجتماعية والسلوكية والاقتصادية والسياسية والفكرية التى تسلب الهوية وتمسخ الشخصية وتؤصل للكراهية وتؤسس للأحقاد. الوطن العربى أصبح يعيش سياقات قهرية وتحولات مفصلية لعب الإعلام التقليدى والجديد دورًا جوهريًا فى تشكيلها والتصفيق لها وحفزها من خلال التطورات الهائلة التى طرأت على وسائل الاتصال الجماهيرى، والتى أصبحت تتعدى الأبعاد التقليدية لوظيفة الإعلام إلى المهام المتعدية الرامية إلى بناء رؤى فكرية وثقافية جديدة تحاكى نمط حياة يصاغ بالتأثير على الوعى والسيطرة على الفكر وترسيخ المفاهيم وتوجيه الوجدان والسلوك بمفاهيم تبنيها وسائل إعلام لها أجندات خفية ضمن سياقات متفاوتة التأثير، تتعاظم سلبياتها وتتوارى إيجابياتها مع تنامى الملكية الفردية لأجهزة البث والاستقبال وتعدد القنوات الفضائية والخاصة، وتنوع ما تبثه من بيانات ومعلومات ومضامين فكرية وثقافية تتعدى حدود الفضاء الجغرافي التقليدي إلى مساحات اتصالية واسعة تستهدف فئات متعددة ومواطن شتى في ظل ثورة الإعلام الرقمي الذي أضحى يُمرر أنماطًا فكرية وثقافية وقيمية وسلوكية أحدثت تغيرات حقيقية فى وظائف المجتمعات المختلفة وفى محطات النفوذ والتأثير، وخلقت نماذج من الصراع الإعلامى الذى يوجه الثقافة وثيقة الصلة بهوية المشاهد العربى وتشكيل وعيه وبناء شخصيته وآفاق مستقبله باعتبارها باتت أحد مصادر التنشئة الاجتماعية التى تُفرض على الجيل الناشئ، وذلك باندماجه مع مخرجات الإعلام الرقمى والتقليدى ليظل حائرًا بين وحى الإعلام وواقع معيشته وحقيقة واقعه، فى تنقاض دائم وتعارض مستمر ضمن تصور عام لوطن عربى يواجه تحديات تُمارس ضده من أخطرها ثقافة الاختراق التى تقودها مجاميع دولية لتسطيح الوعى العربى وتهميش الثقافة والفكر والمعارف والسلع والخدمات العربية والترويج بأنها الأدنى لجعل الإنسان العربى يعيش حالة إنهاك مستمر وداخل دوامة مشحونة بالصراعات الوجدانية والانقسامات المجتمعية التي تجعله ضحية إعلام يقود تضخيم ما يسيئه وتهويل كل ما يبعث على قلقه ويخفى عنه مكامن قوته ومصادر طاقته، ويهون نجاحاته وإنجازاته ليظل فى بوتقته مستهلكًا ومتلقيًا ضمن صورة نمطية تُطلق شرارتها مجاميع إعلام غربى متنفذ مسعور يختفى فى مجتمعاتهم سنويًا ملايين الأطفال وتنتهك أعراضهم وتعتدى بلدانهم على أمم وشعوب وتقتل أبرياء وتنهب ثروات، ويُمجد ذلك الإعلام سلوكهم ويُظهرهم بالفضلاء ذوى القيم النبيلة. ومع هذا يجترها إعلام عربى مأسور ضمن طوق كونى يوجه وسائل اتصاله الجماهيرى من يملك سر تقنياته ويعمل على تطويرها وابتكار جديدها. وتبقى الزعامة العربية فى مفهوم القيادة بين الدهاء والحكمة مهما بقى الإعلام بين التهويل والتهوين وما دام سلاح الإعلام الكلمة، فالبلاغة في الأدب والشعر عربية أصيلة يستحيل انتزاعها. وما دام المدار على الحديث فالمتحدث العربى أكثر فصاحة وبلاغة.

 

  • خبير استراتيجى ورئيس مكتب المعرفة العربية السعودى للاستشارات
  • [email protected]