رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تغريبة القافر

من زمن نفضت يدى من قراءة الروايات العربية وعدت إلى الأدب العالمى الكلاسيكى، لكنى التفت مؤخرًا إلى رواية «تغريبة القافر» الرواية الخامسة فى إبداع الروائى والشاعر العمانى زهران القاسمى. وأخذتنى الرواية تمامًا بتلك السلاسة واليسر والعمق والتأمل الفلسفى بلغة الشعر التى لا تجور على أصول السرد الأدبى. 

يعرض لنا الكاتب حكاية «سالم بن عبدالله» التى بدأت بانتزاعه من رحم مريم أمه، بعد غرقها وموتها فى بئر. ينمو سالم ويلازمه طوال الوقت إنصات ثابت مرهف إلى صوت الماء وخريره أينما تخفى الماء وراء الصخور أو فى باطن الأرض، فيصبح دليلًا يفتح أمام سكان القرية مغاليق المياه، ويكتسب لقب «القافر»، أى من يقتفى أثر قنوات المياه السرية ويكشف منابعها. 

ومن السطور الأولى، بمشهد مولد الطفل من رحم الموت، يسوقنا الكاتب للتأمل فى أن الموت والحياة وجهان لحقيقة واحدة، تخرج الحياة من بطن الموت كما تخرج المياه من باطن الأرض. يقف القافر بين الرجال وبالحدس، أو المعجزة، يشير بإصبعه إلى موضع المياه الخفى وراء الصخور متمتمًا: «ماى.. هنا». هل هى المعجزة، أم الأسطورة، أم على العكس من كل ذلك إشارة إلى قدرة الإنسان الواقعية على تحقيق المستحيل وتغيير الواقع بإشارة من يده؟ 

فى امتداد الرواية يفتش القافر عن مكامن المياه فى الأراضى الجدباء، ويستدعونه فى القرى الأخرى، لكن معنى البحث عن المياه يتسع فى الرواية بحكايات أخرى، فيصبح بحث الإنسان عن الوطن والكرامة والنماء بل الحب أيضًا. لهذا يمسى صوت خرير المياه الخفية هو صوت دقات قلب «نصرا» محبوبة القافر التى تغدو زوجته. إنه الصوت نفسه. وينظر الكاتب إلى زاوية أخرى تمامًا، حين يشير إلى أن القافر تصور أن كل الأصوات التى يسمعها من مخيلته وليس لها أساس فى الواقع، وكأن الروائى يقول لنا إن بحث القافر جزء من صميم أحلام البشر الباطنية، وإن هذه الأحلام والرؤى هى التى تقود كل إنسان إلى تحقيق الوجود، بل هى مغزى وجوده. 

يستدعى القاسمى أساطير الجن والعوالم السفلية والحكايات الخرافية، فحينما اختفى القافر زمنًا تردد فى القرية أن أهل الأرض السفلية أخذوه وقيدوه فى بلادهم، ويستعين الكاتب حتى بأسطورة بنيلوبى المعروفة، المرأة انتظرت رجوع زوجها أوديسيوس من حرب طروادة، ومع طول غيابه وإلحاح النبلاء عليها للزواج، فإنها تتذرع بأنها تحوك كفنًا لوالد زوجها، وما أن تنتهى منه حتى تختار زوجًا، ولكى لا ينتهى النسيج، ظلت كل ليلة تفك جزءًا مما حاكته فى النهار لتبقى فى انتظار زوجها. وهو ما فعلته «نصرا»، زوجة سالم القافر، حين غاب عنها وألحوا عليها فى الزواج، فتعللت بنفس الحجة. 

يراوح الكاتب فى روايته الجميلة بين ما هو تاريخى وما هو أسطورى وما هو واقعى ملموس فى حياة القرى، ويحيل كل ذلك إلى أحداث وصور ظاهرة، وفى هذا السياق تلوح أضواء من ألف ليلة وليلة التى تتناسل فيها الحكايات، مثل حكاية ابن خلفون الذى خاصم أخاه بسبب خاتم فضى كان ملكًا لوالدهما، وحكاية النبى سليمان الذى مر على عمان فوق بساط سحرى ولما رآها جدباء أمر جنوده من الجن بحفر الأفلاج والقنوات لتروى الأرض. فى النهاية نجح القاسمى فنيًا فى تحويل الأسطورة إلى واقع، وتحويل الواقع إلى أسطورة، بحيث لا ترى الحدود بينهما، وقدم كل ذلك بشعور دقيق بفن الإيجاز، وتقطير الشعر، والفكر، والتأمل العميق. 

مبارك للأدب العربى العمل الجميل.